بينما نرى الحكومات في جميع أنحاء العالم في صراع لإستعادة معدّلات نموٍّ مقبولة، نلاحظ شبحاً كبيراً يطارد هذه الدول، ألا وهو الدين العام.
 

في الإقتصادات المتقدمة بلغ الدين العام مستويات غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية رغم بعض الانخفاضات المسجّلة اخيراً. في الأسواق الصاعدة تراكمت الديون الى مستويات لم نشهدها منذ أزمة الدين في الثمانينات (وللعلم ازمة الثمانينات نشأت في اميركا اللاتينية عندما تجاوزت فيها دول اميركا اللاتينية نقطة المقبول من الديون الخارجية ولم تعد لها القدرة على سدادها. هذه الفترة سُمّيت كما هو معلوم العقد الضائع (La decada perdida) لا سيما وانّ العديد من الدول المنخفضة الدخل بلغت مرحلة المديونية الحرِجة وأصبحت على قاب قوسين من المرحلة التي يعجز فيها البلد المقترض من سداد خدمة الدين العام الأمر الذي يُحدث اضطراباً كبيراً في النشاط الاقتصادي للدول.

 

لا تمثّل مستويات الدين المرتفعة بالضرورة مشكلة حين تكون أسعار الفوائد منخفضة كما نجدها الآن في العديد من الاقتصادات المتقدمة، لكن الأمر يكمن في أن هذه المستويات المرتفعة في الديون يمكن أن تجعل الحكومات أكثر تعرّضاً للأنهيار عندما ترتفع اسعار الفوائد الأمر الذي يؤدي لا محال الى تصحيحات سوقية وحركات حادة في أسعار الصرف وتفاقم القضايا المتعلقة بالإستثمار والنمو، وتجعل الدول عرضة ليس فقط للركود وانما أيضاً لتصحيحات وهندسات مالية جديدة، هذا اذا سلّمنا جدلاً أنّ البلاد بعدها في وضعية يمكنها فعل ذلك.

 

ولا غرابة في أنّ اليابان بوصفها رئيسة مجموعة العشرين في الدورة الحالية أدرجت في جدول أعمال المجموعة القدرة على تحمل الديون كقضية أوّلية.

هذا وقد يكون الاعتماد على سياسات نقدية غير تقليدية وضخ كميات كبيرة في الأموال في الأسواق ادّى الى عودة الدين الخاص الى مستويات تذكّر بسنوات قبل الأزمة المالية العالمية (القروض الى القطاع غير المالي والذي انخفض من 151 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في آذار 2008 الى 129 بالمئة في كانون الأول 2011 عاد الى الارتفاع مجدداً ليبلغ مستويات ما قبل الأزمة في أواخر العام 2018) هذا في الصورة الإجمالية. أما بالنسبة للدول فقد أصبح الدين مشكلة كبيرة لا سيما في دول كبيرة ومتقدمة مثل الولايات المتحدة الأميركية حيث أصبح يتعدّى الـ4 بالمئة من الدخل القومي وقد يصل الى مستويات أكبر في حلول العام 2022 حسب التقديرات. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن ما هو سبب أزمة الديون المقبلة وكيفية تجنّبها؟

 

أما بالنسبة لأسبابها فالآراء بين الاقتصاديين تتفاوت ويمكن اختصارها بالتالي:
-1 يرجع جزء منها الى الأزمة المالية الأخيرة.
-2 ازمة الديون المصرفية المتدنية في العديد من دول اوروبا والتي عجز المركزي الاوروبي على حلها وايطاليا خير مثال على ذلك.
-3 الفوائد المتدنّية في اوروبا وحتمية حدوثها في أيلول المقبل في أميركا.

 

كلها امور تشكل ارضية خصبة لحدوث أزمة مالية جديدة سببها الديون المتراكمة ان كان في القطاع الخاص أو في القطاع العام.

أما بالنسبة للحلول فهنالك ثلاث أولويات للسياسات التي يمكن أن تساعد في إحداث فرق مؤثر وقد يكون أهمها:
-1 التأكد من أنّ الاقتراض السيادي يحقق الإستدامة المالية علماً أنه على المقترضين أن يحدّدوا خططاً دقيقة وواضحة للإنفاق العام كي يبقى الدين العام في مسار يمكن تحمله.
-2 إلتزام الدول بإعداد تقارير شاملة وشفافة عن الدين. العام الأمر الذي يساعد في زيادة الشفافية بشأن الإلتزامات و منع تراكم التزامات مستترة تتحول مع الوقت الى دين حكومي صريح.
-3 تشجيع التعاون بين الدائنين الرسميين لأنه يشكل أهمية بالغة في تسوية أزمات الديون.

 

وقد ساهم صندوق النقد الدولي الى حدٍّ بعيد في إنشاء آليات لتسوية أزمات الديون في أميركا اللاتينية ثم في البلدان الفقيرة المثقلة بالديون لا سيما وأنّ الأبحاث أظهرت كيف تؤثر أعباء المديونية المفرطة على التعافي الاقتصادي والمخاطر كافة في تراكم الديون على الأقتصاد والنمو والأستثمار. و لبنان ليس بعيداً من هذه الوضعية حيث فاقت الديون الناتج المحلي الإجمالي لتبلغ ما مقداره حوالى 145 بالمئة وهو من حيث المرتبة الثالث بعد اليابان واليونان علماً أنّ المقارنة باقتصاديات هذه الدول بعيد والخطر المحدق بلبنان. إنّ امكانية المناورة باتت ضعيفة جداً والهندسات المالية التي حصلت لم تشكل ايّ خطوة مهمة في هذا الموضوع لا سيما وانها ركزت على اعادة هيكلية الدين دون الولوج في سياسات لمعالجته. والمؤسسات الدولية والدول المانحة على علم واسع بما في مقدورنا فعله وما فعلناه لغاية الآن والموازنة الضعيفة التي نشأت عن اجتماعات مضنية جاءت غير مثمرة ولم تستطع تخفيف العجز إلّا بنسب خجولة. والدول المانحة والمؤسسات الدولية تعلم علم اليقين ما فعلناه، وما يمكننا فعله ولم نفعله، لذلك قد تكون أموال سيدر صعبة المنال من ناحية المراقبة والمحاسبة والتوقيت.

 

وللمراهنين على أموال سيدر والبترول فإنهما سيف ذو حدّين قد ينقذ البلد او يذهب بنا الى الخراب إن لم تكن هنالك خطة واضحة مدروسة لصرف اموالها وتأمين صندوق سيادي لثروات البترول الموعودة نخرج منها من النفق الذي نمرّ فيه، وفي دولة تسيّس حتى القمامة فيها الأمر الذي يجعلها شئنا ام ابينا بلداً مشلولاً مؤسساتياً واقتصادياً ومالياً تتقاسم فيه 2 بالمئة من الشعب بثروات البلد على غير وجه حق ودون أيّ محاسبة.

 

والأمر الأهم هو أننا مديونون لمصارفنا والتي هي وبدون شك تتحكم اليوم بمفاصل الأمور ما يجعل السياسة والإقتصاد والنموّ ومستقبلنا في يد مجموعة قليلة لا تتعدى أصابع اليد.