هذه المرّة، السفير بيار دوكان لن يأتي إلى بيروت في مهمَّة عادية، فزيارته حاسمة. إذا اقتنع بأنّ الطاقم السياسي «المستنفر» في بعبدا يتصف بالصدقية والجدّية، فسيبدأ التسويق للإفراج عن مساعدات «سيدر»، وإذا لم يقتنع، فسيعود خائباً إلى باريس، وسيتكرَّس الإحباط الذي دفعه إلى السكوت والابتعاد من لبنان الذي قال عنه ذات يوم إنه «غير قابل للإصلاح».
 

خلال الفترة الماضية، سئل دوكان مراراً: إذا كنتم قد حسمتم أمركم واعتبرتم أن لا مجال أبداً للإصلاح في لبنان، فماذا تطلبون اليوم من المسؤولين اللبنانيين؟ أليس عبثياً هذا الانتظار الطويل من أجل لا شيء؟

في قرارة نفسه، يدرك الرجل أنّ الطاقم السياسي اللبناني لن يحقق الإصلاح، لأنه قائم على النفعية والمحسوبيات واستغلال السلطة وضرب القضاء ومؤسسات المحاسبة والرقابة، وإذا اهتزّ نظام الفساد، ستتعرَّض مصالح هذا الطاقم للخطر.

لكن دوكان يقوم بواجبه الوظيفي، كفرنسي كلَّفه الرئيس إيمانويل ماكرون بمهمّة محدَّدة وهي مواكبة «سيدر» بهدف إنقاذ لبنان من السقوط. فبالنسبة إلى باريس، إستقرار لبنان المالي والاقتصادي والاجتماعي والأمني هو من ثوابت الاستراتيجية الفرنسية في الشرق الأوسط.

لذلك، دوكان مُجْبَر على الانتظار والصبر وتحمُّل التعامل المثير للقنوط مع زعماء لبنان. في رأيه، يمكن أن يغيِّر هذا الطاقم السياسي بعض سلوكياته، بالحدّ الأدنى، عندما يشعر بأنّ البلد سيسقط فعلاً، وبأنّ السقف سيهوي على الجميع. وفي هذه الحال، حتى إنّ المشاركين في الفساد سيتضرّرون، لأنّ الدولة التي يستغلونها ستصاب بالإفلاس وسيتوقف ارتزاقهم منها، هم وجماعاتهم.

لم يكن دوكان متحمّساً لزيارة بيروت خلال الأشهر الفائتة، وزيارته الحالية مبرمجة منذ 3 أشهر تقريباً، ولكنه لم يكن عنده أيّ جديد يبلغه إلى المسؤولين. وبالنسبة إليه، ما يمكن أن يتحقق في لبنان من إجراءات لن يتجاوز بعض الترتيبات التي تخفّف حدة الانزلاق نحو الهاوية، ما يمنح لبنان مزيداً من الوقت للصمود، على أمل التغيير لاحقاً، لكنه لا يقدّم حلولاً إصلاحية ثابتة ودائمة.

يكفي أن يلتزم لبنان التوصيات التي نقلها إليه بعد مؤتمر «سيدر» مباشرة، وأبرزها: تصغير حجم القطاع العام وإصلاحه، حسم ملف الكهرباء نهائياً ورفع تكاليفه عن عاتق الدولة، إقرار موازنة إصلاحية شفافة ومتوازنة وفي مواعيدها (موازنة 2019 كان يجب إصدارها في نيسان) وبخفض تدريجي للعجز، والخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتحديث الإدارات بالمكننة.

يعترف دوكان بأنّ معالجة بعض بنود الإصلاح «الثقيلة» تحتاج إلى وقت، ويمكن للجهات المانحة أن تتفهَّم ذلك. لكن هناك بنوداً يمكن إقرارها سريعاً أو إرسال إشارات سريعة إلى أنّ هناك نيّة لالتزامها.

ويمكن للطاقم السياسي أن يبرهن عن جدّية في سلوك نهج الإصلاح بمجرد اعتماده الشفافية في التلزيمات والتعيينات والتصدّي بجرأة لملفات الفساد التي يعرفها الجميع، وإعادة تفعيل دور القضاء وأجهزة الرقابة والمحاسبة. وهنا تكمن خيبة دوكان: في الجدّية والصدقية والرغبة في الإصلاح.

ويقول متابعون إنّ دوكان كان يواكب على مدى أشهر كيف تتفاعل المؤسسات الدولية والأسواق العالمية مع الحكومة اللبنانية وقراراتها. فهي التي تأخذ على عاتقها تمويل المشاريع التي أقرّها «سيدر». وقد سجَّل بقلق انحدار تصنيف لبنان السيادي من B سلبي إلى C.

وليس واقعياً ولا مفيداً أن يحاول دوكان إقناع الجهات المانحة بأنّ لبنان سيسلك طريق الإصلاح فيما تصدر عليه أحكام الفساد عن مؤسسات التصنيف العالمية، وهي مؤسسات تحظى بالتقدير والصدقية.

إذاً، ماذا سيفعل دوكان في بيروت؟
الأرجح أنه سيترقب مسار الحوار في بعبدا. فالنقاشات تلتقي مع هدف الحصول على أموال «سيدر» وإقناع دوكان ببدء تحريك المشاريع النائمة، لكن دوكان «حارس الخزنة» في «سيدر»، العارف بتلافيف دماغ كل زعيم جالس إلى الطاولة سيكون متيقظاً: هذه المرّة، لن تنطلي العناوين الخادعة على أحد.
وأساساً، كان دوكان نفسه قد حذّر من أن لبنان ربما خسِر أو سيخسر جزءاً من الأموال الموعودة في «سيدر»، بسبب هذه «الزعبرة» والمماطلة في الوفاء بالالتزامات الإصلاحية.

وهناك جهات مانحة قد لا تنتظر ما سيقرّره اللبنانيون، بوتيرتهم البطيئة جداً، وقد تحوّل مساعداتها إلى دولٍ أخرى تحتاج إليها. كما أنّ دولاً أوروبية، ومنها فرنسا، ربما يضيق فيها هامش تحريك المساعدات بسبب تزايد القيود التي تفرضها السلطات التشريعية.

ليس واضحاً إذا كان دوكان هو الذي قرَّر المجيء و«معاينة» حوار بعبدا ميدانياً، أم أنّ جماعة الحوار هم الذين طلبوا منه الحضور. فمن جهة، هو له مصلحة في المواكبة المباشرة والحثيثة لما يجري على طاولة الحوار، إذ يمكنه أن يرى الخلل بشكل أفضل.

ولكن، أيضاً، من مصلحة المسؤولين اللبنانيين أن يوجّهوا إليه الدعوة للحضور، وأن يقولوا له: أنظر. نحن جدّيون. نحن نقوم بكل ما يمكن القيام به من أجل الإصلاح. بلِّغ الرئيس ماكرون والجهات المانحة بذلك… و«افتحوا هالخزنة بقى»!

لكنّ المطلعين على موقف رئيس الجمهورية يقولون إنه يقوم بمهمة أكبر بكثير من قصة «سيدر». والورقة التي يطرحها على الطاولة تهدف إلى إنقاذ الوضع بتحويل الاقتصاد إلى منتج والقضاء على الفساد. وهذا الهدف يريد تحقيقه بمعزل عما إذا كان مطلوباً في «سيدر»، بل إنّ إصلاح الاقتصاد والمالية في لبنان من شأنه أن يقلص حجم الدين المنتظر نتيجة المؤتمر، ربما إلى حدود الـ50%. فبدلاً من استدانة 11 مليار دولار، يمكن الاكتفاء بـ5 مليارات أو 6. وهذا أفضل.

لكنّ المثير هو أنّ المسؤولين اللبنانيين الذين يملكون الصبر الكافي ليقرّروا أيّ خطوة إصلاحية يفقدون صبرهم تماماً عندما يطلبون المساعدات. ولبنان «المستعجل» ما زال يضيِّع الوقت منذ عامٍ ونصف العام لينتقل من مؤتمر «سيدر» (نيسان 2018) إلى أول طاولةٍ حوار مالي واقتصادي (أيلول 2019). لكنهم يريدون المال الآن الآن وليس غداً.

ومنذ اليوم الأول كان دوكان واضحاً عندما خاطب المسؤولين بالقول: الفرصة أمامكم قصيرة جداً جداً. عملياً هي منتهية منذ زمن طويل، لكننا سنتكرّم عليكم ببضعة أسابيع، لا أكثر. وحتى المشاريع التي سنقوم بتمويلها، لن نسمح لكم بإدارتها وستقوم الجهات المانحة بالإشراف على تمويلها مباشرة، لأنّ أحداً لم يعد يثق فيكم!

أحد الخبراء في هذه المسألة يقول: غالبية المعنيين في لبنان يراهنون على أنّ دوكان والجهات والمؤسسات المانحة سيتعبون من الانتظار، وسيفرجون عن المساعدات في النهاية، لأن لا مصلحة لأحد في سقوط لبنان. حظنا جيِّد. وغالباً ما يعتمد المسؤولون سياسة «الإتعاب» مع البنك الدولي للاستيلاء على المساعدات والقروض وإدارتها خارج أيّ رقابة.

ولكن، ماذا لو تبيَّن أنّ مقولة الغطاء الدولي على لبنان لم تعد صحيحة إلى هذا الحدّ؟ وماذا لو تقاطع بعض المصالح الخارجية على إضعاف لبنان و»تجويعه»، بهدف فرض خيارات معينة عليه، في لحظة معينة؟

الطاقم الذي يدير البلد يدرك هذا الاحتمال البالغ الخطورة على الأرجح. وعلى رغم ذلك، لا يفعل شيئاً للمواجهة. والسؤال الكبير: لماذا؟