حكام هذا العراق الديمقراطي الجديد يحتفلون ويبتهجون ويفاخرون بالانتصار والفتح المبين حين يحصلون على تبرع، أو على وعد بتبرع من هيئة دولية، أو من إحدى الدول المسماة بـالمانحة أو المقرضة.
 

حين تجد العراقيين يُكثرون من الترحم على العهود السالفة، بما فيها زمن صدام حسين وولديه، عديّ وقصيّ، ومخابراته التي لم يخلق مثلها في البلاد، فإنك تدرك حجم إحساسهم بخيبة الأمل والغضب والقرف من حاضرهم التعيس، خصوصا حين يجدون حكومات عهدهم الديمقراطي الجديد تلهث وراء الدول المانحة لتتسول المساعدات الإنسانية والهبات والقروض، في ظل الوضع المتردي، ماليا واقتصاديا وصناعيا وتجاريا وتعليميا وسياسيا، والتدهور والتفتت والتشرذم والفساد والفشل في جميع المجالات.

 

فالعراق الصغير الذي كان عزيزا ومقتدرا وغنيا، لم يعد عزيزا ولا مقتدرا ولا غنيا في ظل حكم الإسلاميين الشيعة ذوي الهوى الإيراني، وحلفائهم وشركائهم قادة الأحزاب الكردية الذين يتحملون، وحدهم، ثلاثة أرباع المسؤولية عما وصل إليه الوطن العراقي، من أول أيام الغزو الأميركي الذي نصَّبهم ملوكا وأباطرة بعد طول جوع وذل وهوان في دول اللجوء، وحتى اليوم.

 

لقد كان العراق حتى أبريل 2003 أغنى دول المنطقة العربية، جميعها، مالا وتجارة وصناعة وصحة وتحررا اجتماعيا وزراعة وتعليما وثقافة.

 

والثابت واقعيا وتاريخيا، أنه كان يتصدق على بعض الدول المجاورة بالمال والهدايا والعطايا، ويرسل لبعضها وفود المعلمين والمهندسين والخبراء في الإدارة والزراعة والصحة، وفاء منه لواجب الأخوة والجيرة والعطف على المحتاجين.

 

وحتى في زمن المحاصصة الطائفية والعنصرية، وفي ظل الهيمنة الإيرانية على جميع مفاصل الحكم، حصلت حكومات العراق على أموال يكفي مدخولُ عام واحد منها لإعمار دولة كسوريا أو كمصر أو السودان.

 

فاستنادا إلى تقديرات أصدقاء نوري المالكي وخصومه، وأصدقاء حيدر العبادي وخصومه، وأصدقاء جلال الطالباني ومسعود البارزاني وخصومهما، وأصدقاء عادل عبدالمهدي وخصومه، فإن مقدار ما دخل خزينة الدولة العراقية من عوائد النفط المباع، منذ العام 2004 وحتى نهاية العام 2018، لا يقل عن 750 مليار دولار، تضاف إليها مداخيل أخرى يصعب حصرها في زمن الكذب والغش والتلاعب الذي يعيشه العراقيون اليوم. وفي العام 2018 وحده، أعلنت شركة تسويق النفط العراقية “سومو” المملوكة للدولة، عن تصدير 1.277 مليار برميل من النفط الخام في 2018، وقد ناهزت الإيرادات 83.7 مليار دولار.

 

ولكن حكام هذا العراق الديمقراطي الجديد يحتفلون ويبتهجون ويفاخرون بالانتصار والفتح المبين حين يحصلون على تبرع، أو على وعد بتبرع من هيئة دولية، أو من مؤسسة غير حكومية، أو من إحدى الدول المسماة بـ”المانحة” أو “المقرضة”.

 

ففي أول العام 2004 ذهب العراق إلى أول مؤتمر للدول المانحة في طوكيو، ممثلا بشخص رئيس جمهوريته الحالي، الدكتور برهم صالح الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية يومئذ، برفقة وزراء المال والكهرباء والتخطيط والاتصالات، سعيا واستجداء للمساعدات والتبرعات والهبات والقروض.

 

وبعد مؤتمر طوكيو الذي صدق فيه قول المتنبي “أنا الغنيُّ وأموالي المواعيدُ” لم يمر عام إلا والعراق ينظم في إحدى الدول الغنية الأوروبية أو الآسيوية أو الخليجية، وبأموال الشعب العراقي، مؤتمرا للدول المانحة، أو ندوة لتشجيع الاستثمار، دون أن يحصل على ما يحلم ويريد.

 

ولعل آخر تلك المؤتمرات، وهو مؤتمر الدول المانحة في الكويت الذي عقد في شباط/ فبراير 2018، كان أسوأ المؤتمرات وأكثرها تعاسة. فقد تعهدت دول المؤتمر بـ33 مليار دولار على شكل قروض وتسهيلات ائتمانية وهبات واستثمارات، ثم لم يتحقق من تلك الوعود إلا أذنُ جَمَل، بالوقائع والأرقام والتواريخ.

 

وآخر الفضائح أن الأخ الأصغر، الكويت، يتبرع لأخيه الأكبر، العراق، بـ17 مولدة كهربائية،على أساس “ارحموا عزيز قوم ذل”.

 

وأما الداعي لكتابة مقال اليوم فهو هذا الخبر المعيب:

“قالت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، رئيسة بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)، جينين هينيس- بلاسخارت، في إحاطة قدمتها لمجلس الأمن الدولي:

 

– “إن علينا أن ندرك أن التوترات الراهنة يمكنها بكل بساطة أن تتسبب في ضربة هائلة لجميع المساعي الوطنية والدولية الرامية لإعادة بناء عراق مستقر ومزدهر”.

 

– “لقد تم إحراز تقدم بفضل مساعدة الجهات المانحة. فقد تمت إعادة بناء المنازل والطرق والجسور وخطوط الكهرباء”.

 

هذا مع التذكير بأن المعروف، عالميا، أن العراق يملك أكبر احتياطي نفطي في العالم بعد المملكة العربية السعودية، وأن احتياطيَّه النفطي يبلغ أربعة أضعاف الاحتياطي النفطي الأميركي.

 

ويمتاز نفط العراق بأن جميع حقوله موجودة في اليابسة، لذلك فإن تكاليف إنتاجه تُعد الأقل في العالم، إذ تتراوح بين 0.95 و1.9 دولار للبرميل الواحد، مقارنة بكلفة إنتاج البرميل في بحر الشمال التي تصل إلى عشرة دولارات.

 

كما أن في العراق جميع أنواع النفوط، الخفيف والمتوسط والثقيل. وكان العنصر البشري العامل في قطاع النفط العراقي، أيام العز والخير والهناء، يوصف بأنه من بين أفضل العناصر كفاءة في الشرق الأوسط.

 

فهل من معترض، إذن، على أن نسمي دولة عراق اليوم بأنها جمهورية “لله يا محسنين”؟