منذ أطلق رئيس مـجلس النواب نبيه بري مبادرته الـحوارية فـي كانون الأول 2005 على أثر إغتيال رئيس الـحكومة الشهيد رفيق الـحريري فـي شباط 2005، وحتـى حزيران 2012 مع رئيس الـجمهورية ميشال سليمان، والـحوار يـتمحور على نقطة أساسية «الإستـراتيجية الدفاعية».

فـي تشرين الثانـي 2006، توقّفت جلسات الـحوار من دون نتيجة، وتـجدّد الـحوار فـي الـ2009 مع رئيس الـجمهورية ميشال سليمان، ثـم توقّف وفشل مع تصاعد حدّة الإنقسام فـي البلاد حول «الـمحكمة الدولية» وتـمويلها والشهود الزور، وذلك بعد أن إتـهمت «الـمحكمة» أربعة قادة عسكريـيـن فـي «حزب الله» بتـخطيط وتنفيذ جريـمة إغتيال الرئيس الـحريري.

فـي أيار 2012 جدّد الرئيس ميشال سليمان مبادرته الـحوارية، وفـي 11 حزيران إنعقدت جلسة الـحوار فـي القصر الجمهوري، وصدر «إعلان بعبدا» كنتيجة لطاولة الـحوار.

أهمّ ما توصّل إليه «إعلان بعبدا»، حياد لبنان عن الصراعات الإقليمية والدولية تطبيقاً لسياسة النأي بالنفس التـي إعتـمدتـها الـحكومة. وافق الـجميع على هذا «الإعلان»، ولكن فـي اليوم التالـي تنصّل «حزب الله» منه، وانتقد مسؤولوه مبدأ الـحياد عن الصراعات الإقليمية.

سبق أن عانـى اللبنانيون من طاولات الـحوار خلال سنوات الـحرب، لأنـها كانت بـمثابة إبَـر مـخدّرة لتقطيع مرحلة الصراع الطائفي والإقليمي والدولـي. فالـحوار الناجـح والعادل يتطلّب تكافؤاً فـي ميـزان القوى الـمتحاورة، وهذا التكافؤ لـم يكن يوماً متوافراً بيـن الـمتحاوريـن.

اليوم، موضوعان شائكان مطروحان للـحوار، فـي أدقّ مرحلة من تاريـخ لبنان والـمنطقة. فالتـسعيـر الطائفي والـمذهبـي على أشدّه، بعدما نـجح بعض مسؤولينا وسياسيـيـنـا فـي إيقاظ الفتنة فـي الـجبل الشوفـي، التـي كانت نائـمة «نصف غفوة»، والوضع الإقليـمي الـمتفجِّر، بعد إنسحاب الولايات الـمتحدة من الإتفاق النووي، وفرضها عقوبات إقتصادية مؤلـمة على إيـران، والعمل على تصفيـر صادراتـها من النفط والغاز وغيـرها من القطاعات، من أجل جرّها إلى التفاوض بالشروط الأميـركية. إلى جانب التصعيد بيـن إسرائيل و»حزب الله»، بعد الـهجوم الإسرائيلي بطائرتيـن مسيّـرتيـن على الضاحية الـجنوبية فـي بيـروت، وتوعُّد «الـحزب» أنّ الردّ سيكون قاصماً.


فـي هذه الأجواء الـملبّدة، كيف تتـمّ مناقشة موضوعيـن خلافيـّيـن بـهذه الأهـمّية ؟ فالبـحث فـي الإستـراتيجية الدفاعية توقّف منذ حرب تـموز 2006، ثـم إستؤنف بعد التطورات الدراماتيكية على الساحة اللبنانية عقب أحداث 7 أيار 2008، ليعود ويـختفـي عن ساحات الحوار.

إنّ الإنقسام اللبنانـي حول سلاح «حزب الله» و«الإستـراتيجية الدفاعية» سيبقى قائـماً بيـن فريق يرفض وجود سلاح خارج الدولة، ويطالب بنـزع سلاح «الـحزب»، وحصر مـهمّة الدفاع عن الوطن بالـجيش اللبنانـي، وفريق يريد إبقاء الوضع على ما هو عليه، ومواجهة إسرائيل باستـراتيجية تقوم على الثنائية العسكرية، بتنسيق ترعاه السلطة بيـن الـجيش والـمقاومة. هذا الوضع لن يتـغيـّر فـي الـمدى الـمنظور، ما دام الوضع الإقليـمي على حاله فـي سوريا والعراق والـيمـن، وما دامت إيران تـتوغّل فـي هذه الـمنطقة من دون رادع، وتتبـجّح بأنـها تسيطر على أربع من أهمّ العواصـم العربية «صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت».

أمّا الـموضوع الثانـي الشائك، فـهو توجيه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون رسالة إلى مـجلس النواب، عبـر رئيسه نبيه بري، لتفسيـر الـمادة 95 من الدستور، فـهل هذه الرسالة ستقود إلى الـحلّ أم إلى تعقيد الأزمة؟ وهل يـملك مـجلس النواب الصلاحية لتفسيـر الدستور؟ فـي الأساس، الدستور اللبنانـي أعطـى المجلس الـحقّ فـي إصدار القوانيـن وليس فـي تفسيـرها. وكان إتفاق الطائف قد نصّ على إنشاء مـجلس دستوري يتولّـى تفسيـر الدستور ومراقبة دستورية القوانيـن، إلّا أنّ إعتـراض النواب على منح الـمجلس الدستوري صلاحية تفسيـر الدستور، جعله يقرّر تعديل النصّ كما ورد فـي وثيقة الوفاق الوطنـي عبـر إلغاء صلاحية الـمجلس الدستوري في تفسيـر الدستور، إلّا أنه لـم يـمنح نفسه هذا الـحقّ بأيّ نصّ فـي الدستور.

السؤال: لماذا تحميل الـمجلس النيابي خطر التشرذم والإنقسام؟ ولـماذا لا يكون القضاء الـمرجع الصالـح لتفسيـر القانون؟ فـمواقف الأفرقاء معروفة. الـمسيحيون بغالبيتهم الساحقة يعتبـرون أنّ عبارة «مقتضيات الوفاق الوطنـي» تعنـي «الـمناصفة». وبـما أنّ هيئة إلغاء الطائفية لم تُشكَّل بعد، ولـم نصل إلى إلغاء الطائفية، يـجب أن تُعتمد الـمناصفة في كل وظائف الدولة. ويـجب العودة إلى فلسفة الـمادة، يعنـي الوفاق الوطنـي القائـم على التوازن، والتوازن يتـمّ بـمراعاة الـمناصفة.

أمّا الـمسلمون فيـعتبـرون أنّ الـمادة 95 الـجديدة تنصّ فـي الفقرة «ب» منها على إلغاء قاعدة التـمثيل الطائفي واعتماد الإختصاص والكفاءة فـي الوظائف العامة باستثناء وظائف الفئة الأولـى وما يعادلـها فتكون مناصفة بيـن الـمسلميـن والـمسيحيـيـن، وأنّ التـميـيـز بيـن وظائف الفئة الأولـى وسواها يعبّـر بوضوح عن إرادة الـمشتـرع فـي حصر قاعدة التوازن الطائفي التـي كانت معتـمدة فـي ظلّ النصّ القديـم للمادة 95 بوظائف الفئة الأولى دون سواها.

هذا الـجدل العقيـم لـن ينتـهي، وليس له أيّ أفق، وسيـزيد الشرخ بيـن اللبنانيـيـن، إن كان فـي تفسيـر الـمادة 95 أو فـي مقاربة «الإستـراتيجية الدفاعية»، ولكن لا ضرر من الـحوار وتبادل الآراء، لأنّ ما لـم يتـمّ إصلاحه بالـحوار والإقناع، لـن يتـمّ تـحويله بالقسر والإجبار.