كعادته يتعامل «حزب الله» مع الاستهدافات الإسرائيلية بكثير من الحذر والتمحيص والتحليل قبل أن يبادر الى تنفيذ قراره المتخَذ بالرد. ولا شك في أنّ «حزب الله» يسعى لإضاءة كل الجوانب المظلمة والغامضة لما حصل في الضاحية الجنوبية، اضافة الى الأهداف التي توخّاها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو من رفع مستوى الاستهداف في سوريا وتخطي القواعد التي كانت قائمة.
 

كانت الطائرات الإسرائيلية تتحاشى في السابق استهداف عناصر لـ«حزب الله»، وحين كانت ترصد قافلة شاحنات للحزب في سوريا، تعمد الى إطلاق صاروخ تحذيري على مقربة من القافلة ما يسمح لعناصر الحزب بإخلاء شاحناتهم قبل أن تعود لتغير عليها. 

في العملية الاخيرة بالقرب من دمشق ثمّة تبدّل كبير في القرار الاسرائيلي، ذلك أنّ نتنياهو يطلب المواجهة، وهو ما تأكد أكثر مع سعيه لاستدراج الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله غداة خطاب الاخير، من خلال تكثيف طلعات الطائرات الحربية الاسرائيلية، وطائرات التجسّس في سماء لبنان.

حققت التحقيقات تقدّماً كبيراً حيال الأسئلة المتعلقة بمكان انطلاق طائرتي «الدرون» الإسرائيليتين. فمع نفي قوات الطوارئ الدولية مرور ايّ جسم طائر من خلال الجنوب او حتى البحر استناداً الى شاشات الرادار، فإنّ الأرجحية تتحدث عن انطلاقهما من الداخل وربما من منطقة ليست بعيدة كثيراً عن الضاحية الجنوبية. ولا شك في انّ «حزب الله» وحده يعرف الهدف الفعلي الذي توخاه «الموساد» الاسرائيلي من عمليته، والتي يبدو انّ عطلاً فنّياً اصاب الطائرة الاولى أدّى الى إجهاض الخطة.

ورغم عدم اتّضاح الأهداف الأمنية الفعلية المطلوبة، الّا أنّ نتنياهو حقق حتى الآن هدفه الانتخابي، لكنّ موعد الانتخابات ما زال بعيداً نسبياً (17 ايلول)، وردّ «حزب الله» يقلب الوضع بالتأكيد. ففي استطلاع سريع عبر الهاتف أجرته شركة متخصّصة في اسرائيل، فإنّ حزب «الليكود» بزعامة نتنياهو عزّز حضوره، بإضافة ثلاثة مقاعد ليصل الى 32 مقعداً في حال جرت الانتخابات الآن. ولكنه رغم ذلك ما زال غير قادر على نيل الغالبية من دون حزب افيغدور ليبرمان.

وفي حال حصول الرد المباغت الذي وعد به «الحزب»، فإنّ الوضع الانتخابي لنتنياهو سيصبح كارثياً.

وقد يكون وزير الخارجية التركية مولود جاويش اوغلو قد أحسن التعبير عن واقع نتنياهو حيث قال إنّ الحكومة الاسرائيلية بدأت مجدّداً بممارسة الألاعيب القذرة التي تقوم بها قبل كل معركة إنتخابية.

لكنّ التساؤل الأكبر يتمحور على ما إذا كانت هنالك أهداف اخرى لنتنياهو تتعلق بالتطورات الأميركية - الإيرانية. فاعتبار الرئيس الفرنسي انّ الظروف باتت ناضجة لعقد لقاء يجمع الرئيس الاميركي بنظيره الإيراني هو خبر سيّئ لنتنياهو، خصوصاً قبل الانتخابات الاسرائيلية كونه يبني سياسته الداخلية والإقليمية على أساس زيادة الضغوط الاميركية على طهران. ويسانده في هذا التوجّه فريق اساسي داخل ادارة ترامب اضافة الى دول عربية. ومنذ حوالى السنة استبق دونالد ترامب إعلانه عزم بلاده على الانسحاب عسكرياً من سوريا بقيامه بزيارة مفاجئة الى قاعدة عين الأسد في العراق لتكون بمثابة رسالة حول أهمية العراق بالنسبة لواشنطن وحماية مصالحها فيها. وخلال الاسابيع الماضية تعمّد نتنياهو توجيه ضربات مفاجئة في العراق في ذروة حال التوتر ومع السعي الفرنسي لإعادة وصل ما انقطع بين واشنطن وطهران.

وفي قمة الدول الصناعية السبع في بيارتيس الفرنسية اعتبر ماكرون أنّ الظروف اصبحت ناضجة وسط تسريبات عن اقتراح فرنسي بتقديم خطة ائتمان بقيمة 15 مليار دولار لصالح إيران مقابل رهن النفط الإيراني، كحلّ للعودة عن أزمة العقوبات الأشد والتي أعلنت مطلع شهر ايار الماضي.

ومن هنا فهمت الضربات الاسرائيلية بمثابة السعي لتدمير هذه الوساطة الناجحة، لكنّ الجيش الأميركي الذي غضب من العمليات الإسرائيلية، أبلغ الحكومة الاسرائيلية أنها تكشف 5200 جندي اميركي موجودين في العراق امام ردود الفعل الإيرانية، وفي الواقع هذا بالتحديد ما تسعى اليه تل أبيب.

 
 

وفي تعبير عن استيائه ألغى قائد المنطقة الوسطى في المجلس الأميركي الجنرال ماكينزي مؤتمراً صحافياً كان سيجريه الخميس الماضي، وكان سيشارك فيه عبر الهاتف صحافيون عرب، ومن بينهم «الجمهورية».

تبرير نتنياهو جاء في تصريح له يعتبر فيه أنه لا يستطيع منحَ إيران حصانة في أيّ مكان وأنه أطلق يد أجهزته الأمنية للقيام بما ينبغي من اجل إحباط خطط إيران. 

وفي لبنان كان «حزب الله» قد وجّه رسائل إيجابية بعضها من خلال المرونة في موضوع ترسيم الحدود وبعضها الآخر حول السعي لإنهاء أزمة الحكومة بسبب أحداث قبرشمون، وتأكيد امين عام «حزب الله» على المحافظة على المعادلة اللبنانية وعدم السعي لإقصاء أحد.

وبالتالي من المنطقي وضع العملية الاسرائيلية إن في دمشق أو في الضاحية في سياق ضرب الإيجابيات قبل أن تكبر وتصبح اقوى من السيطرة عليها.
لكنّ حسابات ترامب الانتخابية بدأت تختلف عن حسابات نتنياهو الانتخابية ايضاً. فالنجاح الاقتصادي الأميركي بدأ يتبدّل والمخاوف تتزايد من ضعف نموّ الاقتصاد الأميركي وهو ما أخذ يشكّل تحدّياً حقيقياً في وجه ترامب.

وأخصام ترامب الديموقراطيون وفي مقدمهم جو بايدن، نقلت عنهم صحيفة «وول ستريت جورنال» بأنّ رهان البيت الابيض على الحرب الاقتصادية مع الصين من خلال رفع الرسوم الجمركية سينعكس سلباً عليه انتخابياً بسبب صعوبة بيع الفلاحين في الريف منتوجاتهم. مع الاشارة الى انّ هؤلاء يشكلون القاعدة الصلبة لترامب.

اضف الى ذلك أنّ استطلاعات الرأي لم تسجّل بعد أيّ تقدّم لترامب فوق نسبة الـ 45%.

لذلك يسعى لتسجيل انتصار خارجي وهو يضع اللمسات الاخيرة على اتفاق مع حركة «طالبان» الأفغانية يسمح بسحب القوات الاميركية في افغانستان والبالغ عديدها حوالى 13 الف جندي بعد 18 عاماً من الغزو.

وفي السياق نفسه، يحقق ترامب نقطة غالية في حال التفاهم مع إيران. ولو انّ البعض يشكك في قبول الرئيس الإيراني لقاء ترامب ومنحه الصورة، فيما لم يحصل ذلك مع الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما الذي أنجز الاتفاق، مستبدلاً ذلك بمكالمة هاتفية.

ضمن كل هذه الحسابات يجب قراءة اندفاع نتنياهو الذي يرزح تحت خطر خسارة الانتخابات والدخول الى السجن ربما برفقة زوجته.