غدا أو بعد غد لن يمنح الحشدُ الشعبي وزارة الدفاع لأحد من خارجه، وسيُصبح أحدُ قادة ميليشياته وزيرَ دفاع، وآخر وزيرَ داخلية، وثالث مديرَ مخابرات، ورابع مدير أمن، وسلام على دولة كان اسمها العراق.
 

إن الدولة لا تكون دولة تحترم نفسها ويحترمها شعبها، ثم يهابها أعداؤها، إن لم يكن لها جيش قوي متحد ومهاب وقادر على  الدفاع عن سيادة وطنه، وحماية كرامة أهله الذين ينفقون عليه وعلى تأهيله وتسليحه من قوت عيالهم، وإن كانت بهم خصاصة. ولكننا في دولة العراق الجديدة كان لنا جيش، ثم تمَّ اغتياله من زمن طويل.

فقد استغل قادة الأحزاب الكردية والإسلامية المتحالفة والموالية لدولة الولي الفقيه ظروفَ الغزو الأميركي الذي أقدم على تنصيبهم ملوكا على العراق، فأصروا على حل الجيش العراقي الوطني العريق السابق، بحجة أنه جيش صدام حسين، وأنشأوا جيشهم الذي لملموا جنوده وضباطه وقادته من أحزابهم وميليشياتهم وقبائلهم، وفق نظام الحصص الذي أعطاهم الوطن وأهله غنائم تقاسموها بينهم، بالتراضي، حسب حجم الحزب وسلاحه، وقوة الدولة الخارجية التي تحميه.

ولكن حتى هذا الجيش المُلملم من أحزاب الولي الفقيه وميليشياته العراقية العربية الشيعية والكردية لم يسلم من حقد الحرس الثوري الإيراني، بل ظل يرسل عصاباته لتغتال الوطنيين المخلصين من قادته، وظل يتربص به الدوائر، ويعمل بصمت وخبث وتقية من أجل إذلاله وتحقيره، ليتمكن في النهاية من مسخه وتقزيمه وتولية أمره لقادة ميليشياته التي لا تخاف ولا تستحي من إعلان حقدها على ذلك الجيش، وتهيّئُ نفسها لتكون وريثة معسكراته وأسلحته، وليصبح خادما لها يأتمر بأمرها وهو ذليل.

وبعد أن كان قادة الحشد الشعبي وأفرادُه يتوعّدونه، كلاما فقط، تلميحا أو تصريحا، أصبح لهم ما أرادوا أخيرا، وصاروا سادة الدولة العراقية، جيشا وشعبا وحكومة ورئاساتٍ ثلاثا، وبالقانون.

فقد أقرّ برلمان الحشد الشعبي قانون انتخابات مجالس المحافظات الجديد، في 22 يوليو الماضي مضيفا إليه تعديلا مهمّا وخطيرا يسمح لميليشيا بدر وحزب الله العراقي وعصائب أهل الحق وسرايا السلام والنجباء وسرايا الجهاد والبناء وسرايا الخرساني وكتائب التيار الرسالي بالتصويت الخاص، كباقي الأجهزة الأمنية.

وهذا يعني أن هذه الميليشيات سوف تتسلم المفاصل الإدارية والتنفيذية في العراق، تمهيدا لتصبح الحرس الثوري العراقي، أو الفرع الثاني من الحرس الثوري في إيران.

وغدا أو بعد غد لن يمنح الحشدُ الشعبي وزارة الدفاع لأحد من خارجه، وسيُصبح أحدُ قادة ميليشياته وزيرَ دفاع، وآخر وزيرَ داخلية، وثالث مديرَ مخابرات، ورابع مدير أمن، وسلام على دولة كان اسمها العراق.

وهنا ينتهي الجزء الأول من هذه المقالة. أما في مستهل جزئها الثاني فأتساءل، هل يمكن لأهلنا في العراق أن يأتمنوا ميليشيات الحشد الشعبي، وأن يستعيضوا بها عن جيشهم الوطني لحمايتهم وحماية حدود وطنهم وسيادته وكرامته؟ أشك في ذلك، وللأسباب التالية.

فمنذ أن أقام الخميني جمهوريته الإسلامية المجاهدة وهو، ومعه ملايين من مقلديه ومناصريه، يهتفون “الموتُ لأميركا”، وهي بعيدة. ويؤكدون بلا تردد أن أوان محو إسرائيل قريب، وأنها تحت مرمى بنادق حسن نصرالله وصواريخه ومجاهديه.

ولكنهم، حين جاءتهم أميركا إلى عقر دارهم، ببوارجها وصواريخها وعقوباتها الخانقة، لم ينتهزوا الفرصة، ولم ينقضوا عليها، ليتحقق وعدهم، وليجعلوا شعارهم “الموت لأميركا” حقيقة.

ثم حين بدأت صواريخ بنيامين نتنياهو تتساقط يوميا على مرابض مجاهديهم في سوريا ولبنان، وأخيرا في العراق، بلعوا ألسنتهم، ودفنوا وعودهم بمحو إسرائيل، وهم صاغرون.

فالمدعو أبومهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، أعلن أن “أربع طائرات مسيرة إسرائيلية تسللت إلى البلاد عبر أجواء أذربيجان، ونفذت هذه الهجمات، طبقا للمعلومات الدقيقة المتوفرة لدى الحشد”.

وقبله وبعدَه قادةٌ عسكريون ومدنيون إيرانيون وعراقيون ولبنانيون أعلنوا، تصريحا أو تلميحا، أن إسرائيل هي المسؤولة عن تفجيرات صلاح الدين في العراق، وعن تلك التي سبقتها في سوريا ولبنان.

ولم ننتظر طويلا لتتأكد مسؤولية إسرائيل. فقد سارع نتنياهو، إلى الاعتراف، وبكل غرور وعنجهية، بمسؤولية حكومته عنها كلها، وعما سوف يستجدُّ منها في قادم الأيام.

فعندما سُئل، خلال مقابلة مع القناة التاسعة بالتلفزيون الإسرائيلي، عما إذا كانت القوات الإسرائيلية “تتصرف في المنطقة بأكملها، بما في ذلك العراق، ضد التهديد الإيراني”، قال “بالطبع، لقد مَنحتُ قوات الأمن حرية التصريح والتعليمات للقيام بما هو ضروري لإحباط الخطط الإيرانية”.

واتهم إيران بـ”محاولة إنشاء قواعد ضدنا في كل مكان، في إيران نفسها، وفي لبنان، وفي سوريا، وفي العراق، وفي اليمن”، “أنا لا أمنح إيران الحصانة في أي مكان”.

إذن، فالمجاهدون في الحرس الثوري العراقي المسمى بالحشد الشعبي، وفي حزب حسن نصرالله، وفي الحرس الثوري الإيراني، وقاسم سليماني، والوليُّ الفقيه، بشحمه ولحمه، أسودٌ هواصر فقط على المواطن البسيط الفقير الصبور في إيران ذاتها وفي العراق وسوريا ولبنان واليمن. ولكنهم أمام نتنياهو حمامٌ بلا أجنحة، وذئابٌ بلا أنياب. والجبانُ الخائفُ الرعديد لن يحمي شعبا، ولن يذود عن وطن، أليس كذلك؟