تمّ التصويت أخيراً في مجلس النواب اللبناني على قانون موازنة العام 2019، بعد تأخير استمر لأكثر من ستة أشهر.
 

لن نشيد بهذا العمل الفَذ، ولن نهنّئ المسؤولين على هذا الحق البديهي، لكننا سنحاول أن نكون أكثر إيجابية، إذ انه منذ أكثر من 15 عاماً لم نحصل على هذا الترف الذي هو جوهري وأساسي في أي دولة تحترم نفسها وتحترم أبناءها.

 

لقد تابعنا جميعاً عن كثب، وشاهدنا باندهاش تام «مسرحية» المناقشات البرلمانية أو بالأحرى «حفل الأشخاس المتنكّرين» - (bal masqué) الذي تحوّل إلى فيلم ذي مواضيع مختلطة، مع مزيج من الفكاهة ورَشّة من الرعب وبعض المغامرات والكثير من «الأكشِن»، وطبقة من الخيال العلمي، لكن بطبيعة الحال كان خالياً تماماً من الإثارة والتشويق لأنّ جميع الشركاء ينتمون إلى نفس الأسَر الحاكمة مع الاختلاف فقط بنوع القبّعات والكراسي، ويتبعون الإرشادات ذاتها الآتية من الأبطال أنفسهم.

 

كانت النهاية متوقعة منذ البداية، أي انّ الجميع سيفوز، لا غالب ولا مغلوب، حيث انّ السلطة التنفيذية، التي اقترحت مشروعها ودافعت عنه، لم تكن إلّا مجرد تمثيل على مستوى مخفّض للمشرّع الذي كان من المفترض أن يُسائلها ويصحّح المشروع بدقة، مع وجود خاسر وحيد ألا وهو الاقتصاد الذي ينزف والشعب المحبَط الذي وصل الى محنة، لدرجة انه لن يكون لديه قريباً جداً القوة للتصفيق «لأبطاله».

 

إنما كل ما يمكننا تذكّره هو أنّ أولوية موازنة عام 2019 كانت تخفيض العجز وتقليص الإنفاق ومحاربة الفساد بقوة، وخاصة زيادة إيرادات الدولة عن طريق زيادة الضرائب بشكل عشوائي ومُمنهج على الاقتصاد المتهالك وغير المستقر منذ زمن.

 

هذه الموازنة نفسها تحتاج قبل كل شيء اليوم إلى حكومة فعّالة ومنتجة، تعمل ليلاً ونهاراً، من دون الاستفادة من فترة الراحة التي دامت 40 يوماً، والتي شهدناها قبل بضعة أسابيع بسبب وصفة طبية مزيّفة أو حادث لا يمكن تفسيره. هذه الموازنة تحتاج إلى حكومة قادرة، وفق تسلسل مَنهجي، على تنفيذ الاستراتيجيات المختلفة وتنفيذ الخطط المقررة في حقل الألغام الذي نمشي عليه في البلد.

 

نحن اليوم عشيّة بدء مناقشات موازنة العام 2020.

 

يجب أن يكون العنوان الأساسي والأولوية الرئيسية لهذا المشروع الجديد، إعادة بناء النمو، وتشجيع الاستثمار، وخاصة خَلق فرص العمل.

 

بمعنى آخر، ما نطلبه ونأمل فيه هو تحوّل 180 درجة مقارنة مع مشروع موازنة 2019. يجب في وجه خاص تخفيض الضرائب على المستثمرين والرياديين وأصحاب المشاريع، وخصوصاً الذين يخلقون الوظائف، وفي الوقت نفسه تقديم سلال من التشجيع والتحفيزات المُغرية لآخر الناجين من هذه العاصفة المدمرة.

 

لم تتمكن أي دولة في العالم من سَد عجزها من خلال زيادة الضرائب، ولكن على العكس مَن نجح بذلك هي الدول التي قامت باستخدام جميع ميزاتها لخلق النمو وزيادة ناتجها المحلي الإجمالي.

 

حالياً، لدينا 30 وزيراً، فلنستفِد من هذا العدد الضخم وغالباً الثقيل لتحويلهم إلى 30 رياديّاً من المبدعين والديناميين، مع هدف وحيد هو أن يكونوا جميعاً موجودين ميدانياً، ليس لتسجيل الأهداف، غالباً في مرماهم ومعسكرهم، أو التألق تحت الأضواء التي هي غالباً معطلة، ولكن بشكل خاص لإعطاء بعضهم البعض «تمريرات» بُغية مباراة جماعية وتَآزر مثمر مع هدف وحيد ألا وهو أن يفوز المنتخب الوطني وينقذ اقتصادنا المتدهور والمنكوب.

 

لقد تحوّل بلدنا الصغير، الذي كان يُعرف سابقاً باسم لؤلؤة المنطقة، إلى متسوّل فقير يعاني الحرمان ويطلب الصَدقة والمساعدة. لكن لا يجب أبداً أن نفقد الشجاعة والعزيمة والأمل: لدينا كل الميزات اللازمة لتحويله إلى بلد مانِح، مُبدع للثروة والنجاح. وسيبقى بلدنا الذي أصبح مصنعاً للقمامات والنفايات المزمنة (التي لم نعد نعرف أين يمكننا تخزينها) مصنع أدمغة، التي تجول العالم وتغمره بإبداعاتها ونجاحاتها...

 

إنّ الموازنة هي بالفعل رؤية واستراتيجية وخطة عمل، لذلك بدلاً من حفر قبورنا بأيدينا، احفروا أدمغتكم جيداً لتأتوا بالأفكار من أجل تشجيع رجال أعمالنا المشهورين عالمياً، وتحفيز شركاتهم القائمة عبر العالم لإعادة الاستثمار الداخلي والإيمان بلبنانهم من جديد.

لا تفوّتوا، أو بالأحرى دعونا لا نفوّت فرصتنا الأخيرة!