لم تكن المفاجأة محصورة في خفض وكالة «فيتش» التصنيف الائتماني للبنان الى (CCC+)، في موازاة إبقاء «ستاندر اند بورز» على درجة التصنيف السابقة (B-)، بل تعدّتها الى ردود الفعل التي ظهرت في الشارع وعلى مستوى الطبقة السياسية، والتي شكّلت بدورها مفاجأة من نوع آخر.
 

أجمعت كل التصريحات، خصوصاً من قبل السياسيين، على أنّ البلد «ظَمَط» من قطوع التصنيف السلبي، وأمامه 6 أشهر لكي يقوم بالاجراءات والاصلاحات المطلوبة منه لكي ينجو من الانهيار.

وقد بنى هؤلاء مواقفهم على أساس انّ «شفاعة» رئيس الحكومة سعد الحريري لدى الأميركيين نجحت، وأدّت الى موافقة «ستاندر اند بورز» على منح لبنان فترة سماح مدتها 6 اشهر اضافية، يتم خلالها الابقاء على تصنيفه في فئة (B-). وقد ذهب البعض بعيداً في تفسير هذه النتيجة الايجابية التي حصل عليها لبنان، بالقول انّ مصالحة قبرشمون ساهمت فيها!

في الواقع، ورغم جهود الحريري الاستثنائية، والتي أثمرت في موضوع «ستاندر اند بورز» التي كانت تتّجه الى خفض تصنيف لبنان، ومن ثم وافقت على فترة السماح (6 أشهر)، لا بدّ من تسليط الضوء على الحقائق التالية:

أولاً - خلافاً للغة التي يستخدمها سياسيون بالقول انّ لبنان نجا من قطوع الانهيار، فإنّ البلد لم يكن مهدداً بالانهيار بمجرد ان تخفّض «ستاندر اند بورز» تصنيفه الائتماني. بل لهذا الخفض مفاعيل سلبية تشكّل ضغوطات اضافية على الوضع المالي، بما يسرّع مسار الانهيار ويزيد كلفة الانقاذ.

ثانياً - انّ المفاعيل العملية التي كان يخشاها القيّمون على الوضع المالي، والتي على أساسها جرى العمل لتأجيل قرار «ستاندر اند بورز» خفض التصنيف، لم ينجو منها لبنان. وبمجرد ان تكون وكالة «فيتش» قد خفّضت تصنيفه الائتماني الى (CCC+)، فهذا يعني انّ تصنيف البلد قد انخفض فعلاً الى هذه الدرجة، على اعتبار انّ وكالة «موديز» سبق لها أن صنّفت لبنان في درجة (Caa1).

وللتذكير، فإنّ اعتماد العالم التصنيفات التي تَصدر عن الثلاثة الكبار (موديز، ستاندر اند بورز، وفيتش) ليس اختيارياً، بل يستند الى القرار الذي اتخذته هيئة الأوراق المالية الأميركية في العام 1975 باعتماد تصنيفات هذه الشركات حصرياً من قبلها، وهكذا تحولت الشركات الثلاث الى جهة «رسمية» يعتمدها العالم.

وبما أنّ الهيئة الأميركية تحتسب التصنيف، في حال اختلافه بين شركة وأخرى، وفق قاعدة 2 من 3، فهذا يعني انّ تصنيف لبنان الرسمي انخفض الى فئة الـ(C). ولا ينفع هنا، ما يقوله البعض انّ «ستاندر اند بورز» أهم من «فيتش»، (على طريقة بَيّي أقوى من بَيّك) وأنّ تصنيف الاولى هو الأهم. وكأنه أصبح من مهامنا كلبنانيين تقييم شركات التصنيف نفسها.

وفي المناسبة، صحيح انّ «فيتش» تستحوذ على الحصة الأصغر في التصنيفات العالمية (حوالى 15 في المئة) في حين تسيطر «ستاندر اند بورز» و«موديز» على حوالى 85 في المئة، لكنّ ذلك لا يؤثّر بشيء على اعتماد التصنيفات التي تصدر عن الشركات الثلاث على قدم المساواة.

ثالثاً - الاجراءات والتداعيات التي كان يتوجّس منها المسؤولون عن الوضع المالي أصبحت مفروضة على لبنان، وبالتحديد على المصارف التي ستضطر من صبيحة هذا اليوم، البدء في تنفيذ الخطوات التي يتطلبها التصنيف الجديد.

وهي بالتالي ستباشر عملية رفع رساميلها، وحجز مؤونات اضافية على محفظتها من السندات الحكومية التي تحملها، بما سيؤدي حتماً الى تراجع اضافي في حجم الارباح، وربما الى تراجع في اسعار الاسهم. ويستتبع ذلك ارتفاعاً اضافياً في بنية اسعار الفوائد.

رابعاً - يجب الاعتراف بأنّ التبسيط الخاطئ الذي اعتمده البعض، وعن غير قصد على الأرجح، في «الاحتفال» بإبقاء «ستاندر اند بورز» على التصنيف الائتماني نفسه (B-) ساعد في إشاعة مناخ طمأنة بين اللبنانيين، وهذا أمر جيّد لأنه ساهم في تهدئة الوضع وإشاعة ما يشبه الثقة المؤقتة التي يساعد توفيرها في التخفيف من حدة الأزمات الاقتصادية.

خامساً - يجب الاعتراف ايضاً بأنّ إبقاء «ستاندر اند بورز» على تصنيف البلد (B-) خسر جانباً من تأثيره النفسي الايجابي، بعدما صار معروفاً انّ الحقائق الرقمية والحقائق السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كوّنت ملف لبنان لدى هذه الوكالة، تحتّم خفض التصنيف الائتماني، وأنّ عدم الخفض جاء فقط نتيجة التجاوب مع المساعي، وفي مقدمها المساعي التي قام بها رئيس الحكومة خلال زيارته الولايات المتحدة الأميركية.

في المحصّلة، سوف تبدأ مفاعيل خفض التصنيف في الظهور تباعاً، ولا يحتاج لبنان للخروج من الأزمة رغم تعقيداتها الاضافية، سوى الى قرار سياسي يوقِف النهج السابق، ويفتح صفحة جديدة يمكن أن توحي بالثقة. لكنّ المؤشرات حول هذا القرار لا تسمح حتى الآن بالتفاؤل.