الحياة السياسية في إسرائيل هي عبارة عن سلسلة مواسم انتخابية، وبين الموسم والذي يليه تزدهر وتتزاحم استطلاعات الرأي المحايدة ومدفوعة الأجر والمروّجة للأجندات، وهذا شكل من أشكال الانتخابات التي تحدد نتائجها سلوك القادة ولغتهم اليومية.

 


وفي إسرائيل يتناول رئيس الوزراء قبل قهوته الصباحية وإفطاره، آخر ما تأتي به الاستطلاعات من تقويمات للمواقف وأداء المهام؛ بحيث توضع في الاعتبار كأحد المؤثرات المباشرة في الأداء وممارسة السياسة.

 


في كثير من المواسم الانتخابية السابقة، كان صائدو الأصوات يتفادون طرح مبادرات سياسية تتعلق برؤيتهم للحل مع الفلسطينيين، وذلك بسبب عدم تأكد المتنافسين من ردود فعل الناخبين، فكان الإهمال وتجنب الخوض في هذا الأمر هو أكثر المواقف أماناً. وإذا كان لا بد من قول شيء في هذا المجال، فكان الجميع يختار عبارات مبهمة لا تثير أي انطباع. غير أن أمراً ميز السجال الانتخابي في إسرائيل هذه الأيام، حتى صار الموضوع الأهم الذي اعتمدته جميع القوائم المتنافسة، هو الإجابة عن سؤال: ماذا نفعل بغزة؟ ولأن الناخب الإسرائيلي يسيطر عليه هاجس الأمن أكثر من أي هاجس آخر، ولأن الأحزاب المتنافسة سواء سُميت يميناً أو يساراً، تجمع على الاستثمار في هذا الهاجس، فقد صارت غزة مركز الحملات، حتى قبل إيران و«حزب الله»، وصار الفريق الأكثر تشدداً حيالها هو من يستحق الأصوات، فلعله يأتي بمعجزة اقتلاع الخطر من جذوره، وهذه عبارة مفضلة للجميع، مرشحين أو ناخبين.

 


تَصدُّر سؤال: ماذا نفعل بغزة؟ فرض على خبراء الإنتاج الدعائي ابتكار عناوين أكثر قابلية للتسويق من العناوين التي استهلكت لكثرة تداولها، ومعظمها يتعلق بالفضائح الشخصية، إذ لم يعد فعالاً بقدر حاسم مثلاً اتهام نتنياهو بالرخاوة تجاه غزة، والتحالف السري مع «حماس»، وحمل الأموال القطرية على كتفيه لتزويد بنادق وصواريخ «حماس» بالذخيرة، كما ضعفت طروحات ليبرمان بشأن الاجتياح واقتلاع الخطر من جذوره؛ خصوصاً بعد تذكر الناخبين أنه لم يفعل شيئاً حين كان وزيراً للدفاع، كما لم تعد مرافعات إيهود باراك مؤثرة، وهو الذي كان رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع، وقاد حرباً على غزة ولم يفعل شيئاً يذكر، وحزب الجنرالات بدا الأقل مصداقية في طروحاته الجذرية تجاه تصفية خطر غزة، فكل قادته كانوا على رأس الجيش في كل الحروب وفشلوا.

 


ورغم نفاد مخزون بنك الأهداف والشعارات الانتخابية، بقيت الإجابة عن السؤال: ماذا نفعل بغزة؟ هي المادة الأكثر تداولاً في الحملات الراهنة.

 


أكثر المتنافسين ذكاءً في أمر الحملات والحسم الانتخابي بنيامين نتنياهو، وجد عنواناً جاذباً للأصوات، وفيه بعض جديد في التوقيت على الأقل، هو معالجة معضلة غزة بتفريغها من السكان. فمن أوكرانيا أعلن عن خطته للتفريغ، فقد أفصح عن أنه أجرى اتصالات بكثير من الدول، طالباً منها استقبال المهاجرين من غزة، وأفصح كذلك عن عمل ميداني قيد الإعداد، هو تجهيز مطار في النقب لنقل المهاجرين على نفقة إسرائيل إلى أي مكان يقبل بهم، وبالتأكيد لم يغب عن بال نتنياهو أن نجاح خطته هذه يعتمد على حرب جديدة على غرار الحروب التدميرية التي سميت: «الجرف الصامد»، و«الرصاص المصبوب»، و«عمود السحاب»؛ بحيث يجبر الدمار والموت وصعوبة الحياة أهل غزة على مغادرتها إلى أي مكان، مثلما حدث حين اقتحم الغزيون الحدود المصرية بفعل النيران الإسرائيلية، وبلغ عدد الذين لاذوا بسيناء أكثر من سبعمائة ألف غزي، ولولا حسن تعامل المصريين مع تلك الكارثة، إذ أعادوا الغزيين إلى ديارهم خلال أربع وعشرين ساعة، لكانت سيناء الآن مليئة بمخيمات جديدة.

 


ومع أن رائحة التنافس الانتخابي تفوح من إعلان نتنياهو خطته للتهجير، فإن تحويل الأمر إلى سياسة وبرامج قابلة للتطبيق، ينبغي ألا يغيب عن الأذهان. فمن يمنع نتنياهو عن مغامرة من هذا النوع إذا تجاوز كل الحواجز وصار رئيساً للوزراء، أي صاحب القرار في إسرائيل؟ ومن يمنع حزب الجنرالات عن الذهاب في الاتجاه ذاته، إذا لاحت له إمكانية قيادة حكومة وحدة وطنية، يكون ليبرمان عرابها ووزير دفاعها؟
الرهان الوحيد لإفشال هذا الاحتمال الخطر هو الوطنية الفلسطينية التي يمتلئ بها الغزيون، ولكن هذا الرهان بحاجة إلى أن يخدم بطريقة غير التي نراها الآن.