لم يتفاجأ أحد بالتزام رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل التهدئة السياسية في الآونة الأخيرة، بعدما التصعيد في خطابه العالي النبرة بلغ مرحلة باتت تؤثر سلباً على «العهد القوي» ودور رئيسه العماد ميشال عون الذي بادر الى نُصح، والبعض قال الى «زجر»، باسيل سياسياً، ودعوته إلى التعاطي الإيجابي مع جميع الأفرقاء السياسيين من دون أن يبخثه طموحه وحقه في الترشح لرئاسة الجمهورية عام 2022، لكنّ السؤال الذي يطرحه كثيرون هو: هل سيدوم هدوءُ باسيل طويلاً؟
 

يعزو أفرقاء سياسيون التهدئة السائدة حالياً الى الوضع الإقتصادي الدقيق واحتمال أن يأتي تصنيف لبنان الإئتماني مخفوضاً في ضوء المؤشرات السلبية والوضع السياسي المتوتر الذي آلت إليه البلاد، وبالتالي كان الإستقرار المشهود منذ لقاء «المصالحة والمصارحة» الاخير الذي وفّر المعالجة القضائية والسياسية للأزمة التي نجمت من حادثة قبرشمون. 

 

فلو استمرّت هذه الأزمة لاستمرّ معها عدم الإستقرار السياسي، وبالتالي عدم الإستقرار الإقتصادي وتسارع الإنهيار. ولذلك، فرض الوضع الإقتصادي إيقاعه على كلّ القوى السياسية، واستلزم تطويق ذيول حادثة قبرشمون وإتمام المصالحة وتثبيت الإستقرار السياسي وترسيخه. وهذا ما يفسّر توقُّف جولات الوزير جبران باسيل واعتماده خطاباً مختلفاً عن خطاباته السابقة الإستفزازية (حسب توصيف البعض) والتي أدخلته في مواجهة مع أكثر من طرف سياسي. علماً أنّ الوضع الإقتصادي الدقيق فرض إيقاعَه أيضاً على «الحركة الباسيلية»، إذا جاز التعبير.

 

لكنّ البعض يسأل في هذا السياق: «إلى متى سيحافظ باسيل على هدوئه ويتجنّب الصدامَ السياسي مع هذا الفريق أو ذاك؟». 

بين السياسيين مَن يجيب على التساؤل قائلاً إنّ الوضع الإقتصادي بات لا يسمح لعودة باسيل الى سيرته الأولى، لأنّ البلد إذا انهار، فسيُقال إنه انهار في عهد الرئيس ميشال عون. ولذلك بات الوضع الإقتصادي «أكبر من الجميع». كذلك، هناك مَن يقول إنّ الطبع يغلب التطبع وطبع باسيل «يميل تلقائياً وبديهياً إلى الإستفزاز والمواجهة»، ويعتمد النهج نفسه الذي اعتمده عون قبيل انتخابه رئيساً للجمهورية.

 

كلّ التقديرات السياسية تقول إنّ هدوء باسيل لن يطول، وإنه سيعود إلى التصعيد والإستفزاز لأنهما جزء من شخصيته وكذلك من طريقة عمل «التيار الوطني الحر»، والأهم من كلّ ذلك لأنّ البلاد كانت محكومة في النصف الأول من العهد الرئاسي بأولوية الإستحقاق الرئاسي المُقبل، فكيف بالنصف الثاني منها؟

 

وبالتالي، من المُتوقع أن تذهب الأمور نحو مزيد من التشنّج والتصعيد والمواجهات، ولذلك تشير كلّ التقديرات إلى أنّ الهدوء السائد هو بمثابة «استراحة المحارب»، وفاصل مستقطع بين مرحلتين، وهو استثناء، بينما القاعدة هي أسلوب باسيل منذ بداية عهد عون وستستمرّ ناحية الى المواجهات أكثر فأكثر، لأسباب رئيسة ثلاثة:

ـ أولاً، لأنّ باسيل يحتاج الى إستكمال مشروعيته السياسية، ولكن لا يُمكنه استكمالُها إلّا بالمواجهات التي يخوضها، سواءٌ مع «القوات اللبنانية» مسيحياً أو مع تيار «المستقبل» و»الحزب التقدمي الاشتراكي» وحركة «أمل»، وذلك لكي يثبت تجاه جمهوره وقاعدته والبيئة المسيحية أنّه «الأقدر على استعادة الحقوق المسيحية مقارنة مع القوى السياسية الأخرى، وبالتالي هو الأجدر لتولّي رئاسة الجمهورية.


ـ ثانياً، لأنّ العدّ العكسي للرئاسة قد بدأ، لا يُمكن باسيل إلّا أن يكون في مواجهة مع خصومه السياسيين بغية استبعادهم من المسرح السياسي لتكون الساحة مهيّأةً لوصوله إلى الرئاسة. وهنا تجدر الإشارة إلى نقاط عدة:

 

- لا شكّ في أنّ باسيل انزعج من إشارة رئيس الحكومة سعد الحريري من واشنطن إلى مديح أميركي لحاكمية مصرف لبنان والمؤسسة العسكرية. وبالتالي قرأ هذه المسألة على كأنها رسالة سياسية ضده لجهة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ودوره أو لجهة المؤسسة العسكرية بقيادة العماد جوزف عون ودورها، علماً أنّ الولايات المتحدة الأميركية تعتبر أنّ الاستقرارَين المالي والعسكري أساسيان ولذا فإنها تركّز دعمها لهاتين المؤسستين بغية تعزيز الإستقرار السياسي والإقتصادي والمالي والعسكري في لبنان.

- المواجهة مع زعيم تيار «المردة» سليمان فرنجية على الخط السياسي نفسه، وبالتالي يريد باسيل أن ينتزع من «حزب الله» إقراراً على غرار الإقرار السابق لعون للوصول إلى الرئاسة. ويعتبر بعض السياسيين موقف عون الايجابي من «الاستراتيجية الدفاعية» أنه جزء من تكتيك، وتسليف لـ»حزب الله»، فيسلّفه موقفاً بأنّ سلاحه لا يرتبط فقط بالمواجهة مع إسرائيل، بل يرتبط بمواجهة الإرهاب ومكافحته، ليسلّفه الحزب في المقابل تأييده خلافة باسيل له رئاسياً.

- نزاعه مع «القوات اللبنانية» المُتوقّع أن يشتدّ لأن لدى «القوات» مرشحها للرئاسة، كذلك في حالة عون شكّل دورها مدخلاً لوصوله إلى قصر بعبدا، فكيف الآن إذ كَبُر حجمها مقارنة بالسابق على المستويات الشعبية والنيابية والوزارية، وكذلك على مستوى علاقاتها الخارجية، وبالتالي تصبح مرجّحة للوصول إلى هذا الموقع. ولكنّ باسيل سيستمر في مواجهتها بغية تقليص حجمها ودورها وقدرة تأثيرها.

ـ ثالثاً، طريقة إعادة نسج علاقاته مع المجتمعين العربي والدولي، وتحديداً مع زيارة الحريري الاخيرة لواشنطن، وانكشاف وجود قطيعة بين واشنطن وباسيل الذي كان زار العاصمة الاميركية ولم يلتقِ أحداً فيما الحريري الذي ذهب في زيارة خاصة نجح في عقد كلّ هذه اللقاءات. وبالتالي سيركّز باسيل في المرحلة المقبلة على أمرين: سيقول للحزب «أنا معك للآخر» وسيضع كلّ أوراقه عنده، وفي الوقت نفسه لن يقطع العلاقات مع المجتمعين العربي والدولي ليتمكن من الوصول إلى الرئاسة.

وفي هذا السياق، يواجه باسيل ثلاثة تحديات:
ـ الأول، علاقته المهتزة وغير الثابتة مع جميع الأفرقاء والقوى السياسية الأساسية.
ـ الثاني، استعادة الثقة الخارجية فيه، وتحديداً الثقتين الأميركية والسعودية المفقودتين حالياً.
ـ الثالث، كيف يُمكنه انتزاع تأييد علني من «حزب الله» من دون أن يؤثر هذا التأييد على وضعه الدولي لأنه يريد من الحزب تأييداً ضمنياً لكي يتجنّب العقوبات الأميركية، وذلك في ظلّ الحديث عن عقوبات قد تشمل أشخاصاً من «التيار الوطني الحر»، الأمر الذي إذا حصل سيؤدي إلى تضييق حركته.

في الخلاصة، سيدخل البلد في مرحلة تنحو أكثر فأكثر إلى تصعيد ومواجهة عنوانها الإستحقاق الرئاسي، والتهدئة قد تكون مستقطعة وموسمية وليست تهدئة ثابتة وراسخة.