من بين الأسباب الرئيسة التي جعلتني أختار هذا الكتاب دون غيره وهي أني قمت بالقراءة لتولستوي بعض الأعمال السابقة ولعلها أبرزها كتابه: "ما هو الفن؟" عندما كنت أدرس في سلك الماستر، فبهرت بطريقة تحليل الرجل، وموسوعيته الفكرية والفلسفية، الشيء الذي دفعني إلى أن أقرأ له المزيد من الأعمال. فقمت باختيار هذا الكتاب دون أدنى تردد لعلمي الوثيق أني سأستمتع وأستفيد من خلال قراءته، وهو ما وقع يقينًا فقد استمتعت واستفدت في الآن ذاته، وقلما تجتمع هاتين الميزتين في كتاب واحد. فلكي نفهم سر هذه المتعة التي نحس بها ونحن نطالع أعمال العظماء من الناس نذهب مع السيد قطب وبالتحديد في كتابه " النقد الأدبي أصوله ومناهجه " إذ يقول: " إن كل لحظة يمضيها القارئ المتذوق مع أديب عظيم، هي رحلة في عالم تطول أو تقصر، ولكنها رحلة في كوكب متفرد الخصائص متميز السمات"1 وهو ما حصل معي وأنا أطالع صفحات اعتراف للكاتب والفيلسوف الكبير تولستوي. فالمترجم كان مصيبًا عندما ذهب في مقدمة كلمته إلى أن درس حياة العظماء خير الدروس التي تعود على صاحبها بعميم الفوائد، وخصوصًا إذا كانت حياة العظيم مكتوبة بقلمه ككتاب اعتراف الذي خطه تولستوي بخط يده.
 
قبل أن أخوض في أعماق الكتاب أجدني ملزمًا بالوقوف ولو قليلاً للتعريف بحياة هذا الفيلسوف الذي يعد من عمالقة الروائيين العالميين.
 
ولد تولستوي سنة 1828 في عائلة كبيرة تنتمي إلى النبلاء الروس وكانت لهم أراضي واسعة ككل الإقطاعيين في ذلك الزمان وكان أبوه يحمل لقب "كونت" أما أمه فكانت من طبقة الأمراء، ما يعني أنه كان من أصل عالي المستوى في روسيا، بل يجيء في المرتبة التالية للعائلة المالكة.
 
يُعد تولستوي من أكبر المصلحين الاجتماعيين في التاريخ وداعية سلام ومفكر وفيلسوف. من بين أشهر أعماله روايتي "الحرب والسلام" و"أنا كارنينا" وهما يتربعان على قمة الأدب الواقعي، فهما يعطيان صورة واقعية للحياة الروسية في تلك الحقبة الزمنية.
 
اشتهر تولستوي بوقوفه الدائم إلى جانب الحق وكان لا يخاف في سبيل ذلك لومة لائم.
 
يقول عنه ستيفان زفايج في كتابه "تولستوي": "لقد عاش تولستوي طوال ثلاثين عامًا، من العشرين حتى الخمسين، في خلق مؤلفاته، حرًا لا مباليًا.. وطوال ثلاثين عامًا أخرى، من الخمسين حتى الوفاة، لم يحيا إلا لكي يعرف معنى الحياة ويفهمه، مناضلاً ضد ما لا يمكن إدراكه، مقيدًا إلى ما يَعْسُر البلوغ إليه.. ولقد ظلت مهمته يسيرة سهلة حتى اليوم الذي أخذ فيه على كاهله هذه الرسالة الهائلة: أن يَخْلُصَ بنضاله في سبيل الحقيقة، ليس شخصه فحسب، بل الإنسانية بأسرها أيضًا. وإن إقدامه على هذه الرسالة يجعل منه بطلاً، بل قديسًا تقريبًا، أما سقوطه في غمرة النضال في سبيل تحقيقها فيجعل منه أكثر الناس إنسانية على الإطلاق".2 هنا نستنتج أن تولستوي ناضل بفكره وفلسفته في سبيل الإنسانية جمعاء، وقليل من الكتّاب الذين تجدهم من طبقة أرستقراطية برجوازية، ويتبنى مطالب الطبقات الكادحة والمحرومة ويدافع عنها.
 
 
 
عند الدخول في صلب الكتاب نجد أنه يتألف من 126 صفحة، بمعنى أنه كتاب يمكن أن نقول عنه إنه صغير الحجم ولكنه في مقابل ذلك عميق المضمون، سلس اللغة، فبعد الغوص بين ثنايا صفحاته نجد تولستوي يعترف بداية أن دخوله الكتابة كان من أجل الغرور ومحبته للربح والشهرة الكاذبة، وأنه اتخذ القلم حرفة، ثم يروي كيف أنه في سبيل ذلك كان يخفي الصالح ويظهر الشرير، وأنه كان يقضي الليالي وهو يحارب أفكاره، ليخفي ما فيها من الطموح إلى الأكمل والأفضل، الذي كان بالحقيقة ضالة أحلامه الحقيقية. لأن رغبته في الشهرة كانت تقضي على كل صلاح  في فكره. وعلى خداعه الكثيرين في كتاباته التي حققت نجاحًا باهرًا، وكانوا يقرؤونها مادحين شاكرين. إلى أن يصل لإصابته بمرض عقلي لم ينقذه منه إلا الزواج، يقول: "وقعت أخيرًا في مرض عقلي، أكثر مما هو جسدي وتركت أعمالي وسرت إلى البرية... إلى قوله وعند رجوعي تزوجت فقادتني السعادة التي وجدتها في حياتي الزوجية إلى الهرب من السعي وراء إدراك معنى الحياة العام فحصرت أفكاري وجهودي في عائلتي"3 فخوفه من مجرد التفكير في ضلاله كان يدفعه إلى التفكير بفكرة الانتحار أكثر من مرة، هذه الفكرة التي كان السبب فيها هو تساؤله الدائم. لماذا يجب أن أعيش في هذا العالم؟ ولماذا يجب أن تكون لي رغبات؟ ولماذا يجب أن أعمل لنفسي عملاً؟
 
كل هذه الأسئلة وجد أن الفلسفة لم تقدم له جوابًا عنها فالسؤال الذي كان يطرحه على نفسه لا يجد مقابله سوى الجواب الذي قدمه هو. س: ما معنى الحياة؟ ج: لا معنى لها! أو بعبارة أخرى س: ما مصير حياتي؟ ج: لا شيء. هنا في تفتيشه عن حل لقضية الحياة كان أشبه بالرجل الضائع في غابة، يُقبل على سهل فسيح، فيتسلق شجرة، وينظر من أعلاها سُهولاً واسعة لا تقف العين على آخرها، ولا مأوى يلجأ إليه فيها- يرى كل هذا فيدرك أنْ ليس فيها أحدًا لينقذه، فيرجع إلى الأحراج، يتخبط في دياجير ظلمتها، ولا يهتدي إلى ضالته المنشودة. ولذلك فالعلوم النظرية الدقيقة والفلسفة المخلصة لغاياتها ومبادئها، لا تستطيع أن تجيب عن القضية الحاضرة إلا بالجواب الذي قدمه سقراط وشوبنهاور وسليمان بوذا.
 
قال سقراط: "نحن ندنو من الحق كلما بعدنا عن الحياة " فالحكيم ينشد الموت في كل ساعة وهذا نفسه ما عبر عنه شوبنهاور. أما سليمان فيقول: "كل ما في العالم: الحماقة والحكمة، الغنى والفقر، الفرح والحزن، كل هذا باطل ولا قيمة له فالإنسان يولد ويموت ولا يبقى منه شيء، وهذا أيضًا باطل" أما بوذا فيقول: "إن الذي يعرف أن الآلام والأمراض والشيخوخة والموت كؤوسٌ لا بد من شربها، يستحيل عليه أن يعيش برغد، ولذلك. يجب أن نتخلص من الحياة وننجو من إمكانياتها".
 
فالسياحة في حقول المعرفة البشرية لم تقتصر على شفائه من بؤسه وإنما زادته تعاسة وبؤسًا. الموت خير من الحياة! والحكيم من يُنزل عن كتفيه حمل الحياة الثقيل فيتخلص منها مدى الدهر. فتولستوي يقر أن المعرفة المبنية على العقل وهي معرفة المستقبل والحكماء، تنكر معنى الحياة، ولكن أكثرية من بني الإنسان يتمسكون بمعرفة لا أثر للعقل فيها وهذه المعرفة تثبت لهم أن للحياة معنى ساميًا، هذه المعرفة هي الإيمان الذي لم يكن تولستوي يقدر على تحمله.
 
يقول تولستوي: "المعرفة المبنية على العقل أظهرت أن الحياة لا معنى لها فاحتقرت حياتي وودت أن أقتل نفسي بيدي بيد أني كلما نظرت إلى جماهير الناس حوالي كنت أرى أنهم يعيشون فرحين بالحياة عارفين معانيها السامية. لأن الإيمان قد منحهم كما منحني قوة على إدراك معنى الحياة وحمل أثقالها بفرح وصبر".4 فالحياة من غير إيمان مستحيلة حتى أنه أدرك أن الأجوبة التي يقدمها الإيمان تحتوي على أنقى ينابيع الحكمة البشرية وأنه لا يجوز له أن يرفضها لمجرد تمرد العقل عليها فهي الكفيلة بحل قضية الحياة.
 
درس تولستوي البوذية والإسلام بكتبهما الأصلية ثم درس المسيحية بعناية خاصة بكل ما كُتب فيها. أود هنا الإشارة إلى أن تولستوي من خلال دراسته للإسلام قام بكتابة كتاب قيم أسماه حكم النبي محمد، كان كتبه عندما رأى تحامل جمعيات المبشرين في قازان (روسيا) على الدين الإسلامي ونسبهم هذا التحامل إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) هنا طبعًا الغيرة هزت تولستوي، الشيء الذي دفعه إلى كتابة هذا الكتاب وهو عبارة عن حكم ومواعظ جمعها من أحاديث النبي محمد، والأخلاق السامية التي كان يمتاز بها.
 
وبعد اكتشاف تولستوي أن رجال الدين مجرد انتهازيين يحافظون على ثرواتهم ويبالغون العمل على زيادتها، وأن قلوبهم تهلع لمجرد التفكير في الشيخوخة أو المرض أو الموت، هنا أيقن أن حياة العمال، وجميع أبناء الإنسانية المنشغلين بالإنتاج: العمال والفلاحين... والناس البسطاء، هي وحدها الحياة الحقيقية التي يجدر به أن يسعى إليها. أيقن بعد كل الجهد الذي بذله أنه إن شاء أن يفهم معنى الحياة ويقف على معناها الحقيقي يجب أن لا يعيش حياةَ حشرة عالقة على جسم غيرها، بل حياة متميزة بالعمل الصالح لها وللإنسانية جمعاء، متقبلاً المعنى الذي يمنحه للحياة جماهير العاملين الأمناء الذين يؤلفون صرح الإنسانية بكاملها.
 
في الأخير يقر أنه تأثر بالفيلسوف كانط بخصوص البرهان على وجود الله وأنه من المستحيل أن يقبله ويتمسك به. هنا أتوقف قليلاً لأن اعترافه بخصوص الله قادني مباشرة إلى فيلسوف من ضفة أخرى وهو الفيلسوف البريطاني برتراند راسل حين يقول في كتابه "لماذا لست مسيحيًا": "حين كنت شابًا، كنت أجادل بخصوص هذه الأسئلة بكل ما أوتي عقلي من الطاقة، ولقد قبلت طويلاً بفرضية المسبب الأول حتى جاء اليوم الذي تخليت فيه عن هذه الفرضية، وذلك بعد قراءتي لسيرة حياة جون ستيوارت ميل. حيث قال فيها: لقد علمني والدي إجابة السؤال عمن خلقني، وبعدها مباشرة طرحت سؤالاً أبعد من هذا، من خلق الإله؟"5. يشير راسل إلى أن هذه الجملة القصيرة علمته كيف أن مبدأ المسبب الأول هو مبدأ مغالط ومُسفسط، فإذا كان لكل شيء مسبب، فيجب أن يكون لله مسبب أيضًا. وإذا كان كل شيء بلا سبب فسيكون العالم هو الله. طبعًا هذا نقاش فلسفي كبير جد خاض فيه الكثير من الفلاسفة.
 
كان تولستوي في كل مرة يؤمن بالله يشعر خلالها بالحياة، وفي كل مرة يُعرض عنه يشعر أنه ميت، حتى أدرك أن الإيمان ليس مهما لحياته فحسب بل ضروري. ثم يختم اعترافه ببيان أن العقائد  تحتوي على الكثير من الحق وعلى ما هو غير ذلك وأنه ملزم بالتفتيش ليدون ذلك في كتاب خاص يكون جزءا تابعا لهذا الاعتراف.
 
- إبراهيم بن مدان -