في خطوة تاريخية، وصفها ممثل الاتحاد الأفريقي موسى فكي بـ«الإنجاز التاريخي العظيم» وقّعت الأطراف السودانية وثيقة السلم المجتمعي، وثيقة المرحلة الانتقالية، التي غابت عنها القوى الثورية، ولكن الوثيقة تضمن السعي لإحلال السلام في عضون ستة أشهر، تبقى مسألة تركة نظام البشير الكبيرة والمثقلة بالمشكلات والتعقيدات، في ظل وجود بقايا الدولة العميقة، من جماعة الإخوان، التي كانت شريكة البشير في الحكم، والسبب في أزمات السودان الاقتصادية والسياسية وحتى المائية والزراعية.

 


توقيع الاتفاق والوثيقة كان بعد اجتياز عقبة الثقة بين المتظاهرين والمجلس العسكري بعد فض الاعتصام بالقوة، والذي كان نقطة مفصلية بعد سقوط ضحايا، مما تسبب في تعليق الحوار بين جميع الأطراف وتصعيد الموقف، وهذا التصعيد من جميع الأطراف كان من ممكن أن يُدخل السودان في نفق مظلم ومصير مجهول.

 


ولهذا قلنا منذ البداية إن الحل في السودان يكمن في إيقاف التصعيد، والتراضي بين جميع الأطراف، والعودة إلى المفاوضات حول المرحلة الانتقالية الآمنة مع المجلس العسكري، وتعزيز الثقة في الجيش السوداني، فلا دولة سيكون لها وجود إذا أسقط جيشها أو تم تفكيكه.
فالتسوية السياسية في السودان قامت بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير، في ظل غياب واضح للقوى الثورية وغيرها من الفصائل المسلحة التي بعضها تطارده أحكام قضائية تصل لحد الإعدام، وإن كان المجلس العسكري الانتقالي أسقط حكم الإعدام عن بعض القيادات، ولكن هل هذا يكفي لدفع مزيد من الطمأنة إلى عملية التسوية خصوصاً أن وثيقة الاتفاق وإن كانت تحظى بعدد لا بأس به من الموافقين فإن المعارضين لها أو لبعض بنودها لا يمكن تجاهلهم.

 


فتركة نظام البشير ستبقى عائقاً حقيقياً أمام التغيير ومرور السودان إلى مرحلة السلام، وإن كانت القوى الوطنية بعد توافقها وتوقيع الوثيقة أثبتت نظرياً أنها تسعى نحو سودان مستقر وآمن دون أن يكون هناك تأثير لتركة البشير، فحكم البشير كان بعباءة إخوانية، حيث كان لتنظيم الإخوان اليد الطولي في البلاد.

 


السودان صاحب التاريخ الكبير في تكرار الانقلابات العسكرية في التاريخ الحديث، منذ زمن انقلاب إبراهيم عبود على السلطة في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1958، إلى زمن عمر حسن البشير الذي تحالف مع تنظيم الإخوان ليضمن البقاء فترة أطول في حكم البلد المتعدد الانقلابات العسكرية، وإن كان التنظيم قد سارع إلى التخلي عن البشير بمجرد اندلاع الثورة، فقد أعلن المراقب العام لـ«الإخوان» المسلمين في السودان، تخليه عن التحالف مع نظام البشير فقال إن «جبهة الإنقاذ» التي كانت تحكم السودان خلال عهد البشير «قامت بإفساد الدين والدنيا»، مما يؤكد سرعة القفز من مركب البشير الغارق، كعادة التنظيم، التنظيم الذي انفرد بحكم السودان بعد الانقلاب المعروف في 30 يونيو (حزيران) 1989 برعاية زعيمهم الأشهر حسن الترابي، حسن الترابي عراب التنظيم الإخواني، والذي دفعه طموحه إلى محاولة إنشاء تنظيم موازٍ لتنظيم الإخوان الدولي، ولكنه سرعان ما تراجع إلى بيت الطاعة وأحضان التنظيم الأم، الذي تعددت مسمياته في السودان من جبهة الميثاق الإسلامية، إلى الجبهة الإسلامية القومية، ثم حزب المؤتمر الوطني، فحزب المؤتمر الشعبي، وجميعها واجهات متعددة لتنظيم الإخوان في السودان، التنظيم الذي كان دائماً ذراعاً للسلطة ومتنفذاً في أجهزتها، مما سيجعل من الدولة الإخوانية العميقة بؤرة خطر، ويجب الانتباه لهذه البؤرة.