إذا ما تمكّنت واشنطن من إنهاء النزاع الحدودي اللبناني الإسرائيلي، فذلك يعني أن لبنان خرج نهائيا من الخرائط الإيرانية في أي تسوية مقبلة.
 

زار وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لبنان في مارس الماضي. كال وقتها من قلب بيروت يوجّه اتهامات لحزب الله واصفا إياه بالإرهاب. خرج عن رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، وعن وزير الخارجية، جبران باسيل، ما ينفي التهمة عن الحزب ويؤكد أنه لبناني وجزء من مشهد البلد السياسي. حينها أيضا صدر عن قصر بعبدا أن رئيس الجمهورية ميشال عون قال لبومبيو إن حزب الله حزب لبناني ذو قاعدة شعبية تمثّل واحدة من الطوائف الرئيسية في البلاد.

 

ردد بومبيو قبل أيام في واشنطن ما قاله في بيروت. كرر نفس الأقوال أمام ضيفه رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، مضيفا أن لبنان “بلد مهدد من قبل إيران وحزب الله”. لم ترد المنابر الحليفة للحزب في لبنان، حتى الآن، تاركة لصمت الحريري حيال اتهامات واشنطن أن يعبّر وحده عن موقف الدولة اللبنانية. اكتفى الحريري باستنتاج أنه “لا يمكننا تغيير موقف الإدارة الأميركية من العقوبات ضد حزب الله ولكننا نعمل على تجنيب لبنان أي تبعات”.

 

تعتبر واشنطن أن إيران تهدد لبنان. تستقبل رئيس حكومته وتبدي اهتماما بشخص الرجل من بين شخصيات الحكم في بيروت. يستقبل الحريري بومبيو في مزرعته في واشنطن، فيضيف الجانب العائلي على السياسي توابل إضافية على علاقة الإدارة الأميركية بزعيم تيار المستقبل. في ذلك من يعتبر أن واشنطن قررت، منذ بيان سفارتها في لبنان المثير للجدل، إظهار اهتمام خاص بالملف اللبناني على نحو متطوّر عن سلوك أميركي فاتر وغير مفهوم في السابق.

 

تتحدث بيروت أكثر من واشنطن عن عقوبات أميركية قادمة ستطال شخصيات لبنانية حليفة لحزب الله بعضها من خارج الطائفة الشيعية. ومن بيروت وليس من واشنطن من تبرع في توقّع وضع رئيسي الجمهورية ومجلس النواب كما وزير الخارجية على لوائح العقوبات الأميركية. وفي بيروت وليس في واشنطن من قرأ زيارة الحريري للولايات المتحدة بنسخ تهدف إلى المبالغة ربما في استشراف تحوّل دراماتيكي في سياسة الولايات المتحدة في لبنان.

 

تخبرنا الأنباء التي تدافعت حول حكاية المصالحة المفاجئة التي نظمها قصر بعبدا بين رئيس الحزب التقدمي، وليد جنبلاط، ورئيس الحزب الديمقراطي، طلال أرسلان، أن حيثياتها أُعدت داخلياً شارك في صياغتها بري بمباركة كاملة من قبل حزب الله، وأن الدفع بتلك المصالحة لم يكن بحاجة إلى صدور البيان الشهير للسفارة الأميركية (7 أغسطس) حول تداعيات حادث قبرشمون (30 يونيو).

 

على هذا، فإن واشنطن قررت من خلال بيان سفارتها إخطار من يهمه الأمر أن سلوك الولايات المتحدة سيتغير، سيكون أكثر وضوحاً، أكثر حيوية، وربما أقل دبلوماسية عن ذي قبل. بدا أن بيروت عادت لتكون إحدى العواصم الأساسية داخل الخرائط الأميركية في المنطقة. وبدا أيضا أن مقاربة واشنطن لملفات عديدة في المنطقة تتطلب أن يتموضع لبنان وفق زوايا تتسق مع الوجهات الإستراتيجية الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط.

 

على هذا أيضا، ينقلب موقف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن موقف إدارة سلفه باراك أوباما في مقاربة الحالة اللبنانية. كان واضحاً أن واشنطن في العهد السابق لم تكن مكترثة لسقوط بيروت داخل لائحة العواصم التي تتباهى إيران أنها تسيطر عليها. كان أوباما يزيل من أمام الاتفاق النووي كل العراقيل حتى لو كان ثمن ذلك الاعتراف لإيران بهيمنتها ونفوذها داخل العالم العربي. وعلى هذا، بات لبنان آنذاك تفصيلاً هامشيّاً داخل التحوّل الاستراتيجي الذي كان جلياً داخل ما سُمي بـ”عقيدة أوباما”.

ويهم واشنطن بشكل مباشر مجموعة من الملفات التي أفرج عنها بومبيو في محادثاته مع الحريري. تعمل الولايات المتحدة على رعاية وساطة تنهي النزاع الحدودي البري والبحري بين لبنان وإسرائيل. ترى الولايات المتحدة أن التوصل إلى اتفاق في هذا الشأن، من شأنه إزالة توتر حدودي لطالما كان مبررا لحزب الله للاحتفاظ بسلاحه. يعتبر بومبيو أن هذا السلاح إيراني يهدد إسرائيل. وعلى هذا فإن سعي الإدارة المحابي لتل أبيب دون خجل، يعتبر أمر تلك التسوية أولوية إستراتيجية وليس جهداً دبلوماسياً شكليا.

يذهب الحريري بعيداً في طمأنة واشنطن حول حماس حكومته للتوصل إلى هذه التسوية. الأمر أثار أسئلة حول ما إذا كان ما أعلنه عن قرب التوصل إلى الاتفاق، وربما في سبتمبر المقبل، مستنداً على ضمانات بأن حزب الله ومن ورائه إيران لن يكونا معرقلين لهكذا اتفاق.

على أن تسوية الملف الحدودي اللبناني الإسرائيلي بالنسبة للولايات المتحدة، ترتبط أيضا بإنعاش مداولات الطاقة في شرق المتوسط. لواشنطن مصلحة في الاستثمار في هذا القطاع من خلال تبريد الخلاف اللبناني الإسرائيلي الذي يهدد التنقيب في حقول البلدين وتلك المشتركة مع قبرص أيضا. فحلّ العقدة اللبنانية برعاية واشنطن يفتح سبل الاستثمار الدولي لدول أساسية في قطاع الطاقة تجعل من موسكو مشجعة خلف الكواليس لجهود الولايات المتحدة داخل هذا الملف في لبنان.

ويهم واشنطن أن لا ينفجر ملف اللاجئين السوريين. تقود الجهود الدولية لدعم بيروت وتمكينها من ضبط الوجود السوري على نحو لا يفاقم أزمة الهجرة نحو الغرب في الوقت الراهن، وعلى نحو يتسق مع سياسة هذا الغرب حيال التسوية السورية العتيدة. لا تريد واشنطن عودة هؤلاء خارج التوقيت الدولي الذي يشترط تسوية سياسية تنظم مستقبل الحكم في دمشق.

 

تضع الأعمدة الأساسية الظاهرة لسياسة واشنطن لبنان داخل حلبة الصراع الأميركي الإيراني. لا تفتش واشنطن عن مواجهة مباشرة كبرى مع إيران، لكنها ستستمر بقضم قوى إيران من خلال تصعيد العقوبات على طهران وإضعاف أذرعها الإقليمية.

وستعمل الولايات المتحدة في بيروت على تأكيد حضورها، وربما بشكل ثقيل، على ما وشى به بيان السفارة الأميركية. دان حزب الله البيان واعتبره تدخلاً أميركيا سافراً في شؤون لبنان. غير أن هذا البيان، وما وفّره من حماية دولية لوليد جنبلاط، يضاف إلى تأكيد واشنطن على مواصلة دعمها للمؤسسات اللبنانية، واستمرار وساطتها لإنهاء النزاع الحدودي، واحتمال تدحرج العقوبات على شخصيات لبنانية غير شيعية حليفة لحزب الله، بما لا يمكن إلا اعتباره إعلانا رسميا من قبل الإدارة الأميركية بأن واشنطن قررت فعلا التدخل السافر في شؤون لبنان.

بات لبنان مصلحة أميركية مباشرة. صار جليّاً أن بناء أكبر سفارة أميركية في الشرق الأوسط في لبنان يضع البلد داخل المجال الحيوي الأميركي في المنطقة. باتت المجاهرة في الحديث في واشنطن عن وجوب ضبط المعابر وسد المنافذ غير الشرعية على حدود كل لبنان يهدف إلى رفع أسوار حول البلد تقيه خطط إيران في سوريا وتحميه مما قد تأتي به الخطط الدولية لسوريا (لاسيما وقوعها داخل المجال الروسي).

إذا ما تمكّنت واشنطن من إنهاء النزاع الحدودي اللبناني الإسرائيلي، فذلك يعني أن لبنان خرج نهائيا من الخرائط الإيرانية في أي تسوية مُقبلة قد تبرمها واشنطن مع طهران. وإذا ما انتهت أزمة الحدود قريبا، كما يقول الحريري، فذلك يعني أن حزب الله موقِّع على هذه التسوية، مدرك بأن موقع لبنان داخل خرائط الأمن والطاقة الدوليين بات خارج فضاءات إيران في المنطقة.

على هذا، وفي ظل غياب مواقف روسيا والصين، فإن قرارات قد تصدر عن واشنطن تستهدف الغطاء اللبناني لحزب إيران في لبنان ما يضع حدودا بين ما هو لبناني وما هو إيراني في هذا البلد. الحريري نفسه قال إن الأمر يخضع للنقاش في الكونغرس.