الوزير جبران باسيل «مصَيِّف» منذ فترة. هكذا يصفه أحد الخبثاء في السياسة. طبعاً، ليس المقصود أنّ الرجل يتمتع بالإجازة الصيفية في آب. فهو إجمالاً ليس مُغْرَماً بالإجازات. المقصود هو أنّ باسيل سَمِع النصائح، خفَّف «وجع الرأس» قدر الإمكان لفترة، وجلس يفكّر في الآتي، خصوصاً في الآتي من واشنطن!
 

آخر جولة صاخبة لباسيل كانت في افتتاح مقرّ «التيار الوطني الحرّ» في ضبيه. في خطابِه الناري بلغ ذروة التصعيد. بعدَه اختفى صوتُه تماماً. ولم يظهر باسيل، حتى في مشهد بيت الدين، مع الصعود المدوّي للرئيس ميشال عون إلى مقرّه الصيفي، بعد لقاء المصالحة في بعبدا. 

وفي الأيام الـ12 الأخيرة، لم يُنشر لباسيل سوى بضع صورٍ في مناسباتٍ عائليةٍ أو في رحاب الطبيعة… إلى أن حطّ رحاله أمس في رحاب البطريركية المارونية في الديمان. 

يقول المطّلعون: تلقّى باسيل نصائح من جهات قريبة وبعيدة أن يلتزم التهدئة خلال هذه الفترة، بعدما طفح الكيل. والأهم كان بيان السفارة الأميركية الذي أُعدّ بدقّة، ونُشر بجرأة غير معتادة. 

أدرك باسيل- وآخرون- أنّ واشنطن تستخدم اللغة الديبلوماسية لتوصل إشارة أقوى بكثير من الديبلوماسية: ليس مسموحاً لأحد أن يزيح أحداً من المعادلة، أو أن يخربط الاستقرار. وهكذا، أوقف الرجل إطلاق النار على جبهاته المفتوحة، وبدأ يدرس التكتيك البديل لبلوغ الهدف. 

وهدف باسيل في السنوات الثلاث المقبلة، هو أن يبقى «رأس السباق» إلى رئاسة الجمهورية. وليس سرّاً أنه استطاع أن يحجز موقعه على رأس «التيار» خلفاً للرمز المؤسس. وهذا ليس أمراً سهلاً. وهو استثمر ميزاته التفاضلية عن المرشحين الآخرين: الانتماء إلى فريق رئيس الجمهورية الأوسع تمثيلاً مسيحياً، واحتمال الحصول على دعم «حزب الله».

ويقول خصوم باسيل: لسنا خائفين من باسيل. هو سيُخَسِّر نفسه بنفسه في معركة الرئاسة. مَن سينتخبه رئيساً إذا كان يشتبك مع نصف المسيحيين (جعجع وفرنجية وآخرين)، ومع زعامة بري الشيعية، وزعامة جنبلاط الدرزية؟ 

لكن باسيل ليس مقتنعاً بهذه المقولة. فالرئيس عون نفسه مرّ في مراحل مشابهة، وقد تمَّ انتخابه في نهاية الأمر. ويميل باسيل إلى اعتماد استراتيجية عون التي أوصلته إلى الرئاسة، ولو بعد سنوات طويلة. 

وفي تقدير كوادر في «التيار» أنّ معارك باسيل المفتوحة هي التي تتيح له تكريس موقعه كزعامة مسيحية ووطنية. وأما مسألة الوصول إلى رئاسة الجمهورية فتقرّرها المعادلات والمصالح الكبرى في نهاية المطاف، وليس للمناكفات الطارئة أي أثر سلبي عليها. 

والمدّة الباقية حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة، عام 2022، ستسمح بالكثير من المدّ والجزر في العلاقات. وستحدِّد القوى السياسية خياراتها الرئاسية في اللحظات الأخيرة ويمكن أن تنقلب رأساً على عقب. ولذلك، لا يخشى باسيل اتّساعَ دائرة خصوماته. وأكبر برهان هو أنّ جعجع نفسه انسحب من المعركة أخيراً وأقرَّ بترشيح «الجنرال».

إذاً، ما الذي دفع باسيل إلى التفكير في تغيير التكتيك في المرحلة المقبلة؟

بدأ الرجل يستشعر ملامح تغييرات في المعادلة. فحتى الأمس القريب، كانت القوى السياسية كلها تعترف بأنّ رئيس الجمهورية المسيحي يجب أن يكون له تمثيله الوازن داخل طائفته، كما هو حال رئيس المجلس الشيعي ورئيس الحكومة السنّي. ولذلك، كانت الصورة الغالبة أنّ باسيل وفرنجية يتنافسان على الرئاسة، وحدهما تقريباً. 

ولكن، عملياً، لم يتم اعتماد مبدأ الرئيس القوي في طائفته إلا بسبب الإجماع المسيحي، وتحديداً تأييد «القوات اللبنانية» لهذا المبدأ، إضافة إلى موافقة «حزب الله» على انتخاب عون. فهل الإجماع المسيحي على هذا المبدأ ما زال قائماً؟ 

فإذا ارتأى جعجع وفرنجية مثلاً، لغايات معيّنة، أن لا حظوظ لهما في الرئاسة وأعلنا دعمهما لمرشح من خارج «نادي الزعماء الموارنة»، ستعود الخيارات مفتوحة كما كانت قبل صفقة 2016 الرئاسية. وعندئذٍ، يصبح ممكناً، مرة أخرى، اعتماد مرشح رئاسي «وسطي» أو «توافقي».
هذه المناخات عصفت بباسيل في الفترة الأخيرة، تغذّيها محطات ورسائل أميركية عدة:

1- قبل شهر تماماً، كان باسيل في واشنطن. وعلى هامش مؤتمر دعم الحريات الدينية، ولم ينجح في عقد أيِّ لقاء مع مسؤول في الخارجية. وهذه رسالة لها مغزاها.

2- خلال زيارة الحريري لواشنطن، سمع من الأميركيين كلاماً إيجابياً على قائد الجيش وحاكم مصرف لبنان، وعن التزامهما المتطلبات الأميركية.

3- بعث الأميركيون بإشارات إلى احتمال توسيع دائرة العقوبات على «حزب الله» لتشمل حلفاءه، المسيحيين خصوصاً. وهذا يجعل سعي باسيل إلى تغطية أميركية أكثر صعوبة.

4- تتزايد التسريبات عن برودة في نظرة «التيار» إلى قائد الجيش. 

5- في ظل هذه المعطيات، ثمّة مَن يعتقد أنّ علاقة باسيل بالحريري قد لا تحافظ على دفئها في المرحلة المقبلة. 

ويقول بعض المتابعين: الحريري ليس مرتاحاً تماماً لطبيعة العلاقة مع عون منذ أول العهد. فرئيس الحكومة هو العنصر الضعيف في هذه العلاقة، لأنّ عون رمز مسيحيّ قوي، لكنّ الحريري مضطر إلى الحفاظ على تسوية 2016 التي جاءت به إلى السراي.

وقد يكون الحريري مرتاحاً إذا دعم الأميركيون شخصية وسطية أو توافقية للرئاسة. ففي هذه الحال لن يكون في موقع الضعيف. وهناك ظنون في بعض الأوساط أنّ لقاء وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو والحريري في مزرعته ربما تطرّق إلى هذا المناخ. 

وهذا ما يدفع باسيل وعون إلى التحري عما إذا كان الحريري قد وعد الأميركيين بأنه «سيتحرَّر» من ضغطهما في المرحلة المقبلة وفي الانتخابات الرئاسية، أو أنه لم يفعل.

وفي الانتظار، يجلس باسيل هادئاً، ويفكّر في الآتي من الأيام، وفي الحريري الآتي من واشنطن، مستقوياً ربما. وبين الجميع، إنّ «حزب الله» لا يقف متفرِّجاً…