أمام إدارة ترامب حاليا فرصة كي تظهر أنّها مختلفة عن إدارة باراك أوباما. مكان إظهار ذلك في العراق حيث تخوض إيران معركة كبيرة. ما لا يمكن تجاهله أن الانطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الإيراني كانت من العراق.
 

بعد ما يزيد على ستة عشر عاما، ما زالت معركة العراق مستمرّة. يمكن القول إن معركة إيران هي في العراق، بل مستقبل النظام في إيران في العراق الذي اختارت إدارة جورج بوش الابن تقديمه على صحن من فضّة إلى “الجمهورية الإسلامية”. لا يزال القرار الأميركي المتخذ في العام 2002، وربّما قبل ذلك، لغزا. لماذا اختارت إدارة جورج بوش الابن الذهاب إلى العراق في ردّها على أحداث الحادي عشر من أيلول – سبتمبر 2001، أي على غزوتيْ واشنطن ونيويورك اللتين يقف خلفهما الإرهابي أسامة بن لادن؟

 

لا وجود إلى الآن لجواب عن هذا السؤال الذي كلّف الولايات المتحدة الكثير. قررت أميركا اجتياح العراق قبل الانتهاء من حرب أفغانستان معقل “طالبان” و”القاعدة” في الوقت ذاته. قررت خوض حربين دفعة واحدة. في السنة 2019، هناك مأزقان أميركيان. الأوّل في أفغانستان والآخر في العراق.

 

 لم تجد إدارة دونالد ترامب أمامها سوى التفاوض مع “طالبان” من أجل الحدّ من خسائرها في أفغانستان. أما بالنسبة إلى العراق، فهي تكتشف يوما بعد يوم أنّ إيران تغلغلت فيه أكثر بكثير مما يعتقد، وأن النسيج الاجتماعي العراقي الذي ما زال يقاوم الاستعمار الإيراني يخسر يوميا المواجهة مع الميليشيات المذهبية التي ترعاها “الجمهورية الإسلامية”. هذه الميليشيات التي دخل زعماؤها بغداد في 2003 على ظهر دبّابة أميركية…

 

من ينتصر في العراق الذي يقف حاليا أمام ثلاثة خيارات: العراق العراقي، العراق الإيراني، العراق الأميركي، مع ما يعنيه ذلك من نفوذ إقليمي للولايات المتحدة التي اعتقدت أن مجرّد إسقاط نظام صدّام حسين في  نيسان – أبريل من العام 2003، سيؤدي إلى قيام نظام ديمقراطي يتسم بالتعددية يكون نموذجا لما يفترض أن تكون عليه كلّ دولة من دول المنطقة؟

 

من الصعب الإجابة عن هذا السؤال في وقت كشف الانفجار الذي وقع يوم الثاني عشر من آب – أغسطس الجاري في معسكر “صقر” جنوب بغداد أنّ الكفّة في الداخل العراقي بدأت تميل لمصلحة إيران. هناك بكلّ بساطة تغطية رسمية عراقية لـ”الحشد الشعبي”. بغض النظر عمّا إذا كان وراء الانفجار في معسكر “صقر” ارتفاع درجة الحرارة أو سوء توضيب الصواريخ والذخيرة… أو ضربة إسرائيلية أو أميركية، تبيّن أنّه بات من الصعب الفصل بين مؤسسات الدولة العراقية و”الحشد الشعبي”.

 

شيئا فشيئا يتحول العراق إلى نظام شبيه بنظام “الجمهورية الإسلامية التي أسسها آية الله الخميني. في أساس هذا النظام الإيراني “الحرس الثوري” الذي صار في العراق شبيه له هو “الحشد الشعبي”. ليس “الحشد الشعبي” سوى مجموعة من الميليشيات التابعة لأحزاب عراقية موالية لإيران. أكثر من ذلك، معظم هذه الميليشيات شارك في الحرب العراقية الإيرانية التي استمرّت ثماني سنوات من الجانب الإيراني. عراقيون حاربوا بلدهم. هكذا بات مطلوبا أن يكون عليه العراقي في هذه الأيّام، أي أن يقدم انتماءه المذهبي على كلّ ما عداه وذلك خدمة للمشروع التوسّعي الإيراني بكلّ أبعاده.

 

بعد ستة عشر عاما على الاجتياح الأميركي للعراق، تحصد الولايات المتحدة ما زرعته. تحصد وجودا لـ”كتائب جند الإمام” و”كتائب سيّد الشهداء” في معسكر “صقر” الذي يفترض مبدئيا أن يكون تابعا لوزارة الداخلية العراقية.

 

قبل أشهر قليلة، ظهرت بوادر رفض عراقي للهيمنة الإيرانية. لا يزال هناك في عمق المجتمع العراقي، بما في ذلك الأوساط الشيعية، ما يشير إلى رفض للاستعمار الإيراني. لكنّ الذي ظهر بوضوح هو أن الوقت يعمل لمصلحة إيران التي يخوض نظامها معركة حياة أو موت في العراق. عمليا، تأكد أمران من خلال التصرّفات الإيرانية في العراق.

 

الأوّل عمق الاختراق الإيراني لمؤسسات الدولة العراقية، والآخر غياب المناعة لدى رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي حيال الطموحات الإيرانية. أكثر من ذلك نشهد اليوم نوعا من الحيرة الأميركية بالنسبة إلى ما يجب عمله في العراق. هناك عقوبات أميركية حقيقية بدأ يظهر مفعولها في إيران، لكنّ ما لا يمكن تجاهله أن العراق تحول إلى رئة لإيران التي تقاوم العقوبات عبر العراق.

 

ربّما كان آخر دليل على ذلك الموقف الذي اتخذته الحكومة العراقية عبر ما يسمّى “قيادة العمليات المشتركة” التي اجتمعت بعد يومين من انفجار معسكر “صقر” برئاسة عادل عبدالمهدي وقررت حظر كل أنواع الطيران غير العراقي في الأجواء العراقية. القرار موجّه إلى الإدارة الأميركية التي تخشى الحكومة العراقية أن تكون وراء الضربة التي وجهت إلى معسكر “صقر”. يعكس هذا الموقف الذي اتخذه رئيس الوزراء العراقي رغبة في مراعاة إيران وأدواتها العراقية، في مقدّمها “الحشد الشعبي”. هل سيكون هناك ردّ فعل أميركي أم أن إدارة ترامب لن تكون مختلفة كثيرا عن إدارة باراك أوباما في ما يخص العراق وستتجاهل أهميّة العراق بالنسبة إلى إيران؟

 

من الواضح أن إيران اعتمدت سياسة هجومية في العراق. من الواضح أكثر أن الإدارة الأميركية لا تمتلك إلى الآن سياسة عراقية واضحة. لو لم يكن الأمر كذلك، لما خذلت الأكراد عندما قرروا الذهاب بعيدا في إجراء استفتاء على استقلال كردستان العراق في الخامس والعشرين من أيلول – سبتمبر 2017. كان ذلك قبل سنتين. لا يزال الأكراد يعانون إلى اليوم من عدم مطابقة حساباتهم للحسابات الأميركية التي صبّت في النهاية في مصلحة إيران.

 

قبل سنة ونصف سنة أجريت انتخابات تشريعية في العراق. خرج مقتدى الصدر منتصرا من تلك الانتخابات. لا وجود حاليا لأيّ ترجمة لهذا الانتصار. هناك انتصار إيراني لا أكثر بعدما نجحت طهران في منع حيدر العبادي من تشكيل حكومة جديدة، وجاءت ببديل منه هو عادل عبدالمهدي.

 

أمام إدارة ترامب حاليا فرصة كي تظهر أنّها مختلفة عن إدارة باراك أوباما. مكان إظهار ذلك في العراق حيث تخوض إيران معركة كبيرة. ما لا يمكن تجاهله أن الانطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الإيراني كانت من العراق بعد العام 2003. الأكيد أنّه لا يمكن تجاهل الأدوات الإيرانية، لا في سوريا ولا في لبنان ولا في اليمن، لكنّ الأكيد أيضا أن العراق في غاية الأهمّية بالنسبة إلى إيران، خصوصا بعدما ثبت أن “الجمهورية الإسلامية” تتنفس حاليا من الرئة العراقية.

 

ما الذي ستفعله إدارة ترامب التي تمتلك رؤية متكاملة للدور الإيراني في المنطقة وللخطر الذي يمثله هذا الدور؟ ثمة حاجة إلى سياسة أميركية واضحة في العراق لا أكثر ولا أقلّ بعيدا عن كل الأعذار، التي تُساقُ بين حين وآخر، عن أن الأمل لم يفقد بعد بوجود رغبة لدى الحكومة العراقية في إصلاح ما يمكن إصلاحه على صعيد علاقاتها العربية، خصوصا مع دول الخليج…