لا ينجحُ سياسيٌّ في لبنان ما لم يكن مُثقّفًا، إلا إذا عَوَّضَت تُخمةُ مالِه عن تَقشُّفِ فكرِه، وهذا هو الرائجُ عندنا منذ تسعيناتِ القرنِ الماضي، فوَصلَ سياسيُّون من دون أنْ يَنجَحوا، فسادَت ثقافةُ الأُميّة. ومن هنا شَبَّ الفسادُ. لكنَّ نجاحَ السياسيِّ المثقَّف ليس حتميًّا ما لم تَتأهَّل ثقافتُه بالوطنيّة، وهذه متواريةٌ عن الأنظار فعَمَّت ثقافةُ التبعيّة. ولَكُم أنْ تَـــحَـــزَروا ما هو حاصلُ الأُميّةِ زائدًا التبعيّة.

السياسةُ هي أحدُ إفرازاتِ ثقافةِ الشعوب ووطنيّتِها، بما هي فنُّ إدارةِ المجتمعات. شِرعةُ الاتِّحادِ الأوروبيِّ سنةَ 2000 نَصَّت على أنَّ «الثقافةَ بوجهِها التعدديِّ هي حقٌّ أساسيٌّ لكلِّ مواطن».

وفي عزِّ القصفِ النازيِّ على بريطانيا بين أيلول 1940 وأيار 1941، أَنشأَ رئيسُ الحكومةِ ونستون تشرشل «مجلسَ تشجيعِ الثقافةِ والفنون» لئلّا يَنسى الشعبُ الثقافةَ أثناءَ الحرب، ووَضَع له شعارًا: «الأفضلُ لأكبرِ عدد» (The Best for the Most)، وأوكَل رئاستَه إلى عالمِ الاقتصادِ السياسيِّ جون كينْز (John Keynes). ومن هذا الموقِع خَطّطَ تشرشل وكينْز مستقبلَ بريطانيا الاقتصاديّ والسياسيّ.

حين تسلّمَ الجنرال ديغول، وهو كاتبٌ عظيم، رئاسةَ فرنسا طَلب من رفاقِه الراغبين في العملِ السياسيِّ أنْ «يقرأوا كُتبًا ويَكتُبوا مؤلَّفاتٍ ويصنعوا مستقبلَ الأمَّةِ الفرنسيّة».

أمّا نابوليون فكتبَ رواياتٍ ورسائلَ أدبيّةً ووضَع مذكّراتِه في منفاه. والإسكندرُ المقْدونيُّ كان يَحتفِظُ بـــ«إلْياذةِ هوميروس» وهو يَخوض الحروبَ، ومِن أساطيرِها يَستمِدّ ُالعزمَ والمعنويّات. وفي لبنان تَميّز كبارُ سياسيّيه، عليهم الرحمةُ وإليهم الحنين، بِحسٍّ ثقافيٍّ قراءةً وكِتابةً وخَطابة.

أذكُرُ يومَ زُرتُ الرئيسَ ميشال عون بعد أسابيعَ على انتخابِه، ونَصحَني بالتفرُّغِ للكتابةِ لأنّني ـــ على حدِّ تعبيرِه ـــ أَمتلِكُ هذه الموهبةَ وأتمتعُ بأسلوبٍ خاصّ. شَكرت إطراءَه الوِدّيَ، وقَدّرتُ نُصْحَه الأبويَّ وعَمَلت به. عَساه غيرَ نادمٍ على نصيحتِه.

نَفتقِرُ منذ زمنٍ إلى ثقافةِ السياسةِ اللبنانيّةِ وإلى سياسةِ الثقافةِ اللبنانيّة. لذا تسيرُ الدولةُ بدون قوّةٍ دفعٍ من جِهةٍ، وبدونِ كوابحَ من جهةٍ أُخرى. ما هي القيمُ المرجِعيّةُ في العملِ السياسي؟ ما هي قاعدةُ التفكيرِ لدى المسؤولين؟ ما هي معاييرُ المسؤوليّةِ في الشأنِ العام؟ ما هي أُسسُ استشرافِ المستقبل؟ لقد وضَعَت الدولةُ موازنَتها الماليّة، لكنّها تتحرّك سياسيًّا على القاعدةِ «الاثْني عشريّة». كلُّ يومٍ بيومِه، وكلُّ يومٍ وصَفْقتُه معه. لو وُجِدت مؤسّساتُ تصنيفٍ سياسيّةٌ على غرار «موديز» و»فيتش» و»ستاندر آند بورز» لكان تَصنيفُ لبنانَ السياسيِّ أسوأَ من تصنيفِه الاقتصاديّ.

قد يُجيز السياسيّون في دولٍ أُخرى إعفاءَ أنفسِهم من عناءِ الثقافة، لكنَّ السياسيّين في لبنان مُلزَمون بالثقافةِ، ولو تَبرُّجًا. الثقافةُ هي هُويّةُ لبنان، وحقُّ الشُفْعةِ أن يكونَ بلدُ الأبجديّةِ بلدَ الثقافة. وحقُّ السببيّةِ أن يكونَ بلدُ الثقافةِ بلدَ الحريّة. مرتكزاتُ الثقافةِ اللبنانيّةِ ثلاثةٌ: الروحانيّةُ بما تَعني من أديانٍ وقيمٍ وإنسان، التاريخُ بما يَعني من نضالٍ لأجلِ الأمنِ والحريّةِ والاستقلال، والكيانُ بما يَعني من ذاتيّةٍ تعدديّةٍ نَموذجيّةٍ متفاعِلةٍ مع المحيطِ والعالم. نشأ لبنانُ ليكونَ وطنَ الثقافة. ومثقَّفون هُم الّذين أسَّسوا لبنان. وبقدْر ما لبنانُ بلدُ الثقافةِ والحريّةِ هو بلدُ المسيحيّين والمسلمين. لا قيمةَ إضافيّةً لمسيحيّي لبنانَ ومسلميه من دون خصوصيّتِهم الثقافيّة. الثقافةُ تُعوِّض للصيغةِ اللبنانيّةِ ما لم تُؤمنْه الديانتان لها: المدنيّةُ المجتمعيّة.

 
 

لبنانُ قوميٌّ ثقافيٌّ. ليس قوميًّا مسيحيًّا أو إسلاميًّا، ولا قوميًّا سوريًّا أو عربيًّا. وحين يكون وطنٌ قوميًّا ثقافيًّا يَحتضِن جميعَ هذه القوميّاتِ التاريخيّةِ وغيرَها. الجبلُ يَرْشَحُ ثقافةَ العنفوان، والسهلُ ثقافةَ الخِصب، والبحرُ ثقافةَ الاكتشاف، والساحلُ ثقافةَ الانفتاح، والقريةُ ثقافةَ التُراث، والمدينةُ ثقافةَ التفاعُل، وكلُّها تَقْطُـرُ ثقافةَ الحرّية.

أَثبتَت التجربةُ اللبنانيّةُ أنّه كلّما تراجعت الثقافةُ في لبنان صار لبنانُ بلدَ الآخَرين. يُمسي يُشبِهُهُم. وكلما ارتفعَ مستواها سادَ الرُقيُّ والديمقراطيّةُ. أصبَحنا مِثلَه.

الولاءُ للبنان يَمرُّ في الولاءِ للثقافة. ويَخطُر على بالي أنْ نُجرِّبَ مداواةَ مشاكِلنا الوطنيّةِ بالحلولِ الثقافيّة بعدما فَشِلَت الحلولُ السياسيّة. وأَثبتَت التجربةُ أيضًا أنْ كلّما زَرعنا حبّةَ الثقافةِ في الشعب، نَبتَت في الدولة.

المواطنُ المثقَّفُ يحترمُ قانونَ الدولة، والدولةُ المثقَّفةُ تحترم عقلَ المواطن. لكن أنّى للدولةِ اللبنانيّةِ أن تحترمَ عقلَ المواطِن إذا كان عددٌ وافرٌ من مسؤوليها من دون ثقافة. وأنّى للمواطنين اللبنانيّين أن يحترِموا قانونَ الدولةِ إذا كانوا لا يؤمنون بها. وحدَها الأنظمةُ التوتاليتاريّةُ تَفرِضُ على مواطنيها احترامَ القوانين من دونِ إيمانٍ بها ومن دونِ احترامِ عقولِـهم. هل بَلغْنا في لبنانَ هذه المرحلةَ ولا يَدري بها الشعبُ والحكّام لا أظن، لكنّنا، بالتأكيدِ، وَلَـجْنا «أوليغارشيّةً» عائليّةً بعد «أوليغارشيّةٍ» ميليشيويةٍ من دون حياءٍ أخلاقيٍّ وحِشْمةٍ وطنيّة.

لم يَسقُط لبنانُ عسكريًّا. رَبِح جميعَ الحروب. قاومَ المحتلِّين، هزَمَهم، طَردَهم، وانتصَر. لكنّه خَسِرَ معركةَ الثقافةِ. ومَن يَخسَرُ هذه المعركةَ يَخسَرُ الحربَ ولو ربحَ سائرَ المعارك. منذ أربعينَ سنةً ولبنانُ يَسقُط كلَّ يومٍ ثقافيًّا وحضاريًّا. انْــحَطَّ المستوى العامُّ وفَقدَت حَدْسَها الحواسُّ. سَفَلَت السياسةُ وإدارةُ الشأنِ العامّ.

في شبابِنا كنّا نَترَّقب خُطَبَ النوّابِ ومقالاتِ الصحافيّين وحِوارات أهلِ الرأي لنَتثقّفَ. كانت ثقافةً متنقِّلةً، فصارت اليومَ، بجزءٍ كبيرٍ منها، شتائمَ متنقِّلَة. كانت الثقافةُ في لبنانَ حالةً متألِّقةً وأمْست لمحةً مُكْفهرّة. الإشكاليّةُ أن سقوطَ الثقافةِ يَجرُف في طريقِه الحريّة. بغيابِ الثقافةِ تَفقِدُ الحرّيةُ رفيقةَ دربِها، وبالتالي، توازنَها وتهذيبَها ورُقيَّها.

صحيحٌ أنَّ الحرّيةَ قيمةٌ قائمةٌ بذاتِها، لكنْ، مُجرَّدُ أنْ يمارسَها المواطنُ تُصبح شَراكةً مع الآخرين وتَخضَع للقوانينِ والآدابِ واللياقاتِ والقيم. الحريّةُ مطلَقةٌ في التعبيرِ عن الذاتِ، لكنّها نسبيّةٌ في التعبير عن الآخَر.

في دولةٍ ديمقراطيّةٍ يُسيء المواطنُ إلى الحرّيةِ بسوءِ استعمالِها، كما في دولةٍ ديكتاتوريّةٍ يُسيء الحاكمُ إليها بمنعِ ممارسَتِها. إن المواطنَ الـمُدجَّجَ بالحرّيةِ والمنزوعَ الثقافةِ ـــ أي القيمِ ـــ يُحوِّلُ الحرّيةَ حالةً مِزاجيّة. لا تستطيعُ الحرّيةُ أن تُعاديَ الثقافة.

من هنا، حاجةُ لبنان إلى سياسةٍ يَجرُّها جَوادان: الحرّيةُ والثقافة، ويَسيران إلى وُجهةٍ ذاتِ هدفٍ واحدٍ: استعادةُ هُويّةِ لبنان. هوذا مشروعُ مقاومةٍ لبنانيّةٍ جديدة: افتَح كتابَك وقاوِم.