منطقة شرق الفرات تكتسي أهمية استثنائية في الجغرافيا السورية إذ تعتبرها دمشق جوهرة الاقتصاد، بينما تتعامل واشنطن معها من زاوية منع إعادة ظهور داعش.
 

توصلت الولايات المتحدة وتركيا إلى اتفاق بشأن إقامة منطقة آمنة في شمال شرق سوريا وذلك بعد مباحثات شاقة بين الطرفين، غير أن خبراء يشككون في قدرة هذا الاتفاق على الصمود بسبب تهديده للوجود الكردي، حيث تسعى تركيا لإقامة المنطقة الآمنة بعمق 32 كيلو مترا من الحدود التركية باتجاه الأراضي السورية، وإحكام السيطرة عليها، وإخراج المقاتلين الأكراد منها، ويؤكد الخبراء أن مصير المنطقة مرتبط أساسا بمآلات الصراع التركي- الكردي، ومن غير المستبعد أن تتعرض لمصير مشابه لاتفاق منبج الذي ظل حبرا على ورق في حال عدم تفهم الهاجس الكردي حيال التمدد التركي واستيعابه.

 

بينما تستمر المواجهات في شمال غرب سوريا ويجري تطبيق اتفاقيات “أستانة وسوتشي” بالنار لجهة الحسم العسكري في خان شيخون وريف إدلب الجنوبي، تتسارع المفاوضات والترتيبات الأميركية- التركية حول إنشاء منطقة آمنة أو ممر آمن في شمال شرق سوريا وذلك بهدف تبديد مخاوف أنقرة من الشريط الحدودي الكردي وعدم المساس بالشريك الكردي للقوات الأميركية، والأهم فرملة واشنطن للتقارب الروسي- التركي ورسم خطوط مناطق النفوذ في سوريا المبلقنة في إطار مخاض إعادة تركيب كل الإقليم المضطرب. وكما في كل ملفات “الحروب السورية” هناك الكثير من الألغام والمطبات على درب إقامة المنطقة الآمنة في شرق الفرات وكان ذلك موضع جدل ومماحكات منذ 2012.

 

أهمية استثنائية لشرق الفرات
لَم تكن مهمة أنقرة يسيرة ليس فقط بسبب خياراتها وتموضعها إزاء تطور الأحداث في سوريا، بل لصراع الإرادات الإقليمية والدولية حيال هذا البلد الأساسي في العالم العربي و”قوة الوسط” في المشرق لجهة الموقع الجغرافي.

وتكتسي منطقة شرق الفرات أهمية استثنائية في الجغرافيا السورية إذ إنها تمثل جوهرة الاقتصاد لجهة ثروات الطاقة المختزنة في باطنها، كما أنها توجد على خط التماس والاشتباك بين الحنين الإمبراطوري التركي والمشروع القومي الكردي. وهذه المنطقة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي، بعد استعادة بعضها من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، تضم نحو ثلث مساحة سوريا، وتحتوي على نحو 90 في المئة من الثروة النفطية بالإضافة إلى 45 في المئة من إنتاج الغاز في البلاد.

 

ويحتدم صراع الإرادات حول شرق الفرات نظرا لمركزية هذه الناحية في تقرير مستقبل التركيبة السورية، إذ تعتبرها دمشق ومحورها حيوية لاستكمال بسط النظام لسيطرته، بينما تتعامل واشنطن معها من زاوية منع إعادة ظهور داعش، أو لكونها رافعة ممكنة للتأثير في مستقبل الوضع السوري برمته. لكن مما لا شك فيه أن مصير شرق الفرات في اللحظة الراهنة سيرتبط أكثر فأكثر بمآلات الصراع التركي- الكردي، المتصاعد منذ 2015.

 

وفِي هذا الصيف سعى الرئيس رجب طيب أردوغان للدفع نحو تسجيل نقاط ضد الجانب الكردي في سوريا بالرغم من تداعيات سياساته على مصير إدلب وأهلها، ومن أزمة اللاجئين السوريين في تركيا المتفاقمة بعد انتخابات إسطنبول. واستند أردوغان إلى إتمامه صفقة صواريخ أس- 400 مع روسيا وإلى تعاونه مع موسكو في مسار أستانة، كي يضغط على الجانب الأميركي ويحاول تحقيق تقدم في موضوع المنطقة الآمنة الذي يؤرقه منذ سنوات ويعتبره المدخل لتحديد حصته من الكعكة السورية.

وعلى جري عادته في خطاباته الحماسية والحربية، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 26 يوليو الماضي عن قراره القضاء على “التهديد الإرهابي شرق الفرات” حيث يسيطر حزب العمال الكردستاني منذ صيف عام 2015. وبالطبع تؤخذ تهديدات تركيا على محمل الجد منذ عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” في صيف 2016 وشتاء 2018.

 

وإذا كان القتال ضد داعش مبررا للعملية الأولى فإن القاسم المشترك لكل العمليات هو القتال ضد الحركات المسلحة الكردية، وأهمها حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي المعروف غالبا باسم الجناح المسلح (وحدات حماية الشعب)، إذا كانت العمليات الأولى تهدف إلى احتواء ما اعتبرته أنقرة توسعا لوحدات حماية الشعب، خاصة على طول الحدود التركية. لكن الذي يبرز منذ فترة هو وجود رغبة تركية في التمركز داخل الأراضي السورية وإقامة نوع من الجدار الواقي أو تفصيل منطقة نفوذ خاصة.

وبالرغم من المماحكات والأخبار المتناقضة عن مضمون اتفاق أميركي- تركي حول المنطقة الآمنة سرعان ما استنكرته دمشق، هناك سعي أميركي لاحتواء أنقرة كي لا تذهب بعيدا مع موسكو من خلال تفهم هواجسها الأمنية كشريك أطلسي وكقوة إقليمية.

وفي الوقائع أعلنت وزارة الدفاع التركية، الثلاثاء، أن العمل مستمر لتفعيل مركز العمليات المشتركة، المقرر إنشاؤه في ولاية شانلي أورفة جنوبي تركيا، لتنسيق الإجراءات التركية- الأميركية في المنطقة الآمنة المزمع إنشاؤها شرقيّ الفرات. وقالت الوزارة، في بيان أنه “جرى توفير المعدّات المتعلقة بالمهمات الحساسة الخاصة بالمركز”.

وأشارت إلى “استمرار العمل على تأسيس مركز العمليات المشتركة وتفعيله بأسرع وقت ممكن ودون أي تأخير”. وكان وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، قد حذر بأنه إذا لم يحصل ذلك “ستكون لدى تركيا أنشطة وعمليات ستقوم بها بنفسها”.

وفِي نفس السياق، أعلن متحدث باسم البنتاغون، الخميس، أن اتفاقا بين تركيا والولايات المتحدة لإقامة منطقة آمنة في شمال غرب سوريا سيتم تنفيذه بشكل تدريجي وعلى مراحل، مشيرا إلى أن بعض العمليات المتعلقة بالاتفاق ستبدأ في وقت قريب. ووفقا لشروط الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين أنقرة وواشنطن، فإن السلطات ستستخدم مركز التنسيق الذي سيكون مقره في تركيا من أجل الإعداد لمنطقة آمنة في شمال سوريا.

 

 والهدف من وراء هذه المنطقة هو إنشاء منطقة عازلة بين الحدود التركية والمناطق التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية، وهي قوات مدعومة من واشنطن لكن أنقرة تصنفها على أنها منظمة إرهابية. يقول المثل الفرنسي “يوجد الشيطان في التفاصيل” كما حصل في الاتفاق حول منبج من قبل وما يمكن أن يحصل مع هذا الاتفاق لأن عمق المنطقة الآمنة يريده الجانب التركي لمسافة عشرين ميلا بينما يطالب مجلس سوريا الديمقراطية بألا يتخطى خمسة كيلومترات، أما واشنطن فتحاول أن تكون الوسيط الذي يدوّر الزوايا ويمنع الصدام.

 

مصير مشابه لاتفاق منبج
إزاء ذلك، يبدو أن ثمة ترابطا بين سياق التصعيد الميداني الحاصل في إدلب، وسياق الاتفاق الأميركي- التركي بشأن المنطقة الآمنة في شرقيّ الفرات. وفي موازاة الضغط الروسي لعدم تسهيل الاتفاق التركي- الأميركي تبرز أصوات من داخل المؤسسات الأميركية مثل الجنرال المتقاعد جوزيف فوتيل، الرئيس السابق للقيادة المركزية الأميركية الذي حذر من أن منطقة آمنة سورية تسيطر عليها تركيا “ستخلق مشاكل أكثر لكل الأطراف هناك”.

 

وستكون لها نتائج عكسية، منها على الأرجح التسبب بنزوح 90 بالمئة من السكان الأكراد، ومفاقمة الوضع الإنساني الذي يشكل حاليا تحديا بالغا، وخلق بيئة للمزيد من النزاعات. ولهذا إذا لم يتم أخذ الهاجس الكردي حول التمدد التركي إلى المناطق الآهلة في كوباني (رأس العين) وغيرها بالاعتبار، سيتعرض الاتفاق لنكسات ويمكن أن يشبه اتفاق منبج الذي بقي حبرا على ورق.

 

وهناك تفسير للإصرار التركي على المنطقة الآمنة لأنها بمثابة الممر الإلزامي للحصول على منطقة النفوذ العتيدة. لكن في حال تعثر الاتفاق سيصطدم طموح أردوغان بعدم القدرة على تجاوز أي خط أحمر أميركي أو روسي، وإلا دون ذلك صراع عسكري مع الوجود الكردي في الخاصرة الرخوة لأنقرة في الشمال السوري، وصراع حول التركيبة الديموغرافية في الجوار التركي. وفي المحصلة يتوجب انتظار نتيجة اختبار قوة مزمن حول الدور التركي في كل الإقليم.