حركة حماس قوّضت صدقية عفوية وسلمية المسيرات بهيمنتها عليها وتسييرها لها وعدم مراجعتها لذلك في تصريحاتها، رغم الخسائر البشرية الباهظة، ورغم عقم ذلك الخيار، بعد تجربته في كل جمعة، منذ 30 مارس 2018 حتى الآن.
 

تكثّفت الحالة الفلسطينية المأساوية مؤخّرا، وهي من أساسها كذلك، أي منذ 71 عاما، في حوادث أو صور كارثية ثلاث، كأن هذا الشعب يعيش مأساة مديدة، أو كأن مأساته تعيد إنتاج نفسها. بيد أن الكوارث المذكورة هنا كانت ناجمة عن فعل ذاتي، رغم أنها نتاج الحالة الأولى، أي النكبة وإقامة إسرائيل على حساب الفلسطينيين، وهو الأمر الذي يجب الإضاءة عليه بدل إنكاره أو حجبه.

الصورة الأولى، تمثلت بفتية ضحّوا بشبابهم وبسلامتهم وبسعادتهم، من أجل وطنهم، ففقدوا أجزاء من أجسادهم، وباتوا في حالة إعاقة دائمة، في حين ثمة في حركة حماس من وجد لديه الوقت للاحتفاء بتقديم “مكرمة” لهؤلاء، تمثّلت بمبلغ زهيد من النقود. المسألة هنا لا تتعلق بقيمة المبلغ، وإنما تتعلق بمعنى ذلك الاحتفاء أو ذلك التباهي، الذي يتضمن امتهان هؤلاء الشباب بدل تكريمهم، من خلال صورة الاحتفاء، وتسليم المبالغ أمام الكاميرات (على طريقة تصوير المنحة القطرية)، الأمر الذي يشي أيضا بعقلية تنم عن الاستهتار بحياة الناس، وسلامتهم.

ومعلوم أن هؤلاء الشباب لم يفقدوا أجزاء من أجسادهم، في معارك عسكرية في مواجهة إسرائيل، وإنما في مسيرات “العودة وفك الحصار”، أي في مسيرات سلمية، تتحمل إسرائيل فيها مسؤولية إجرامها، بيد أن ذلك لا يعفي المسؤولين عن إطلاق تلك المسيرات من مسؤوليتهم عن أخذ أطفال وفتيان إلى خط الخطر، أو إلى مرمى رصاص الجنود الإسرائيليين، بشكل متكرر ومن دون أي حساب أو مراجعة أو دراسة للجدوى السياسية.

ويجدر التذكير هنا أن حماس قوضت صدقية عفوية وسلمية تلك المسيرات بهيمنتها عليها وتسييرها لها وعدم مراجعتها لذلك في تصريحاتها عن وحدات اشتباك ليلي ووحدة الطائرات الحارقة وغير ذلك، رغم الخسائر البشرية الباهظة، ورغم عقم ذلك الخيار، بعد تجربته في كل جمعة، منذ يوم الأرض 30 مارس 2018 حتى الآن، أي في 69 جمعة، ذهب خلالها أكثر من ثلاثمئة شهيد والآلاف من الجرحى والمعوقين، أي أن فلسطينيي غزة باتوا في كارثة حقيقية على هذا الصعيد، مع ذلك العدد الكبير من الجرحى والمعوقين (والعائلات التي فقدت معيلها أو ابنها كشهيد) في الحروب الإسرائيلية التي شنت على غزة منذ خطف الجندي جلعاد شاليت (2006) إلى حروب الأعوام 2008 و2012 و2014.

الصورة الثانية، تمثلت في قرار الرئيس الفلسطيني حلّ مجلس القضاء الأعلى، أواسط الشهر الماضي، ويأتي ذلك بعد أن تم حلّ المجلس التشريعي قبل سبعة أشهر في أواخر 2018. هكذا إذا أخذنا في الاعتبار، أيضا، واقع تغييب المجلس الوطني الفلسطيني، الذي لم يعقد سوى دورتين عاديتين منذ إقامة السلطة عام 1994، هما الدورتان 21 لعام 1996، و23 لعام 2018 (الدورة 22 لعام 2009 كانت غير عادية وفقط لترميم عضوية اللجنة التنفيذية)، بمعنى أنه لم يعقد في 12 عاما سوى دورة واحدة في حين يفترض أن دورات المجلس تعقد مرة واحدة سنويا، فإن ذلك كله يفيد بهيمنة السلطة التنفيذية، والقيادة الفردية، كما يعني ذلك أن الحركة الوطنية الفلسطينية باتت تفتقد للسلطة التشريعية في المنظمة والسلطة في آن معا، كما باتت تفتقد السلطة القضائية، التي تخضع لهيمنة السلطة التنفيذية أو لسلطة الرئيس لوحده، في واقع يشي بتدهور أحوال الحركة الوطنية الفلسطينية، أكثر من أي فترة مضت، لاسيما أن الرئيس لم يعيّن أي نائب له، وهي الملاحظة التي كان يوأخذها هو نفسه على الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.

الصورة الثالثة، تمثلت باعتصام فلسطينيي لبنان أمام السفارة الكندية في بيروت للمطالبة بالهجرة إلى كندا باعتبار أن حق العودة من كندا إلى فلسطين أسهل، على حد تصريح أحدهم، فضلا أن العيش في ذلك البلد الغريب عنهم، بالقياس للبنان (العربي)، يضمن كرامتهم وحقوقهم في العيش كبشر عاديين. والمعنى هنا أن فلسطينيي لبنان الذين يُعانون التمييز ضدهم، في السكن والعمل والتنقل والخدمات، باتوا غير قادرين على الاستمرار في العيش بهذه الطريقة، التي مضى عليها أكثر من سبعة عقود، كما ضاقوا ذرعا من استخدامهم في الأجندات الفصائلية التي تدّعي الحفاظ على المخيم، المليء بالبؤس والباعث على الإحباط، والذي لا يمت بصلة للوطن والوطنية بشيء. المهم أن ذلك الاعتصام كشف سأم الفلسطينيين من الشعارات ومن الفصائل، ومن منظمة التحرير، لاسيما بعد أن تحوّلت إلى سلطة.

الأهم من كل ذلك أن تلك المسيرات لفلسطينيين كانوا تحمّلوا عبء الفترة “الذهبية” للعمل المسلح في لبنان، ودفعوا باهظا ثمن خروج المنظمة منه، كشفت بوضوح أنه لا علاقة البتة لعيش الفلسطينيين مثل البشر العاديين، ووطنيتهم، وأن ادعاء رفض التوطين لا يمتّ بصلة لحق العودة بقدر ما يمت إلى نبذ الفلسطينيين ودفعهم إلى الهجرة، كما كشفت أن الوطنية لا تعني العيش في بؤس مقيم، ولا تعني الحفاظ على المخيم، مع العلم أن الفلسطينيين مارسوا ذلك عمليا منذ عقود، في الهجرة إلى الدول الاسكندنافية والأوروبية والأميركيتين، بحيث لم يبق في لبنان من اللاجئين الفلسطينيين سوى ثلث عددهم المفترض، أي حوالي 200 ألف من أصل 600 ألف، بحسب الإحصائيات الرسمية اللبنانية، وهو أمر مسكوت عنه عند الجهات الرسمية اللبنانية والفلسطينية، بغض النظر عن الادعاءات والشعارات. هذه مآلات تراجيدية لشعب يعيش تراجيديا القهر والمحو والحرمان منذ عقود.