إنّ إنهاء حادثة قبرشمون ـ البساتين من خلال مصالحة بعبدا وعودة الانتظام الحكومي لا يعنيان انتهاء مفاعيلها الوطنية، ومؤشراتها السياسية، وما أفرزته من توازنات جديدة على المسرح الوطني.
 

كانت كل المؤشرات تدلّ إلى انّ العهد يخوض معركته مع رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، وفق النهج نفسه الذي اتّبعه في تأليف الحكومة لناحية مواصلة الضغط إلى حين يتمكّن من انتزاع تمثيل درزي وزاري من خارج «الإشتراكي»، او لناحية سعيه إلى انتزاع الثلث المعطِّل، ولو كان هذا الثلث ممسوكاً في جانبه السنّي من قبل «حزب الله»، أو لجهة الفراغ الرئاسي الذي لم ينته إلّا بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وغيرها من الأمثلة طبعاً إبّان تأليف الحكومات والتمسّك بوزراء وحقائب.

 

فمعركة المجلس العدلي خيضَت بالطريقة نفسها، اي الضغط إلى حين إقراره في مجلس الوزراء، وتركّز هذا الضغط على رئيس الحكومة سعد الحريري من أجل ان يدعو إلى جلسة حكومية يُصار فيها إلى التصويت على المجلس العدلي، ولم يكن رفع مستوى المواجهة من قبل رئيس الجمهورية بتأكيده انّ «حادثة البساتين كانت مَكمناً أُعِّد للوزير جبران باسيل»، أو رفضه اي مصالحة عشائرية قبل الإحالة على المجلس العدلي، سوى من باب الضغط من أجل انتزاع هذا الهدف.

 

وأمّا الأسباب التي حالت دون ان يتمكّن العهد من انتزاع الهدف العدلي الثمين، فتكمن في الآتي: 

أولاً، تمسّك جنبلاط بموقفه الرافض للمجلس العدلي وعدم بروز أي إشارة منه بنيّته التراجع، وتضامن الحريري معه، والذي تعامَل مع طلب رئيس الجمهورية بالدعوة إلى جلسة حكومية، مُستنداً فيها إلى المادة 53، وكأنه غير موجود، كما تضامن رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع.

 

ثانياً، بيان السفارة الأميركية الذي أكّد هواجس «حزب الله» وثَبّتها من تحويل حادثة البساتين إلى دفرسوار للتدخّل الأميركي المباشر من خلال اتهامه بضرب التوازنات اللبنانية وتصفية الحسابات، وفي ظل خشيته من التصويب عليه في الوقت الضائع والفاصل بين المواجهة أو انطلاق المفاوضات الأميركية - الإيرانية.

 

وفي موازاة بيان السفارة، فإنّ الحزب الذي لا يمانع بتسجيل هدف ثمين في مرمى جنبلاط، إلّا انه في الوقت نفسه يتجنّب انهيار الاستقرار الأمني والسياسي خصوصاً أنّ الوضع الحالي لا يشكّل له مصدر قلق وإزعاج لمجازفة من نوع هَز الاستقرار، لن يبارك مغامرة ليست من صنع يديه وقد تؤدي إلى إرباكه وإدخاله في مسار لا يريده.

 

ثالثاً، القلق من الوضع الاقتصادي، خصوصاً مع تَسارُع وضعية الانهيار بسبب غياب الاستقرار السياسي، الأمر الذي جعل حلّ أزمة البساتين وعودة الحكومة إلى اجتماعاتها وتثبيت الاستقرار السياسي أولوية مطلقة لمواجهة التحديات الاقتصادية والمالية.

 

وإذا كانت لـ»حزب الله» أسبابه واعتباراته التي فرضت عليه استعجال إنهاء ذيول حادثة البساتين، فاللافت هو التقاطع الذي َبرز بين «ثلاثيتين» على إقفال الطريق أمام أي محاولة لتحجيم «الإشتراكي» وتطويقه: ثلاثية «الإشتراكي» و»القوات» و»المستقبل» انطلاقاً من التوازن السيادي الـ14 آذاري ولأنّ إسقاط أي حلقة يعني سقوط الحلقات الأخرى، وثلاثية بري - الحريري - جنبلاط القديمة جداً، والتي رغم اختلافها تتقاطَع حول خطوط سياسية محلية عدة، وتحاول أن توفّر الحماية لبعضها البعض انطلاقاً من حاجة كل مكوّن فيها للآخر، وجاء تقاطعها رسالة ضد باسيل ودوره وسياساته.

 

والثلاثية الأخيرة التي كانت شِبه ثابتة ما قبل عام 2005، لم تحافظ على ثباتها بعد هذا التاريخ، فشهدت «طلعات ونزلات» بحسب الظرف السياسي. ومع انتخاب العماد عون اقترب الحريري من رئيس الجمهورية وابتعد بري عن الإثنين، ولكن بري وجنبلاط لم يوفّرا مناسبة لإعادة تقريب الحريري وإبعاده عن عون بالشكل الذي لا يقطع فيه مع بعبدا ويُعيد الوزن إلى هذه الثلاثية وطنياً.

 

وما يجمع هؤلاء الثلاثة هو انزعاجهم من أداء باسيل، خصوصاً انّ البيئة السنية لم تعد تَتقبّل العلاقة بين رئاسة الحكومة وهذا الطرف، فيما وصلت الأمور مع جنبلاط إلى حدها الأقصى، وأما بري فموقفه من هذا الطرف متقدِّم على الإثنين، والثلاثية تعزّز أوراقه المحلية التي يمتلكها بإتقان كعامل توازن مع «حزب الله» ودور وطني متقدّم. 

وليس تفصيلاً أن يظهر باسيل في حادثة البساتين مجرّداً من اي تحالف وطني، وذلك بمعزل عن الموقف الخارجي الذي حَدِّث وَلا حَرج في وقوفه إلى جانب جنبلاط، حيث انّ سياسته أوصَلته في أقل من 3 سنوات من تأييد القوى الأساسية للعهد، إلى عدم وجود أي حليف له مسيحياً وسنياً ودرزياً، فيما تنقسم الساحة الشيعية بين «حزب الله» المؤيّد له و»أمل» غير المؤيّدة، كما انه في لحظة المواجهة بين باسيل وبري وقفَ الحزب علنية وصراحة مع بري الذي استفادَ من حرص الأخير على الاستقرار ليدفع الأمور في مواجهة البساتين لمصلحة جنبلاط.

 

فلم يبقَ مع باسيل سوى «حزب الله»، ولكنّ حادثة البساتين أظهرت أيضاً انّ الحزب لا يستطيع مُسايرة باسيل على حسابه ومصلحته، بل الأحرى انّ الحزب يوظِّف أداء باسيل لمصلحته، ولا يَنجَرّ إلى السياسة التي يريدها الأخير.

 

فاستخدام حادثة البساتين سياسيّاً لخَنق جنبلاط وطنياً شَكّل دعسة ناقصة من باسيل، هذه الحادثة التي أظهرت بمفاعيلها انّ رئيس «التيار الوطني الحر» هو الطرف أو اللاعب الأضعف وطنياً، وانّ السياسة التي اتّبعها ارتدَّت سلباً عليه، وانّ مواصلته السياسة نفسها ستؤدي إلى مزيد من إضعافه ومحاصرته وتضييق الخناق عليه.