نحن أمام رؤيتين أيديولوجيتين لا تتقاسمان أي مخرج مشترك لتنظيم العولمة أو إعادة تشكيل النظام الدولي. المشهد العالمي يتخبط باضطراب متصاعد مع عودة سباق التسلح بين الدول الكبرى والقوى الإقليمية ودون وجود حوكمة وضوابط في تنافسية لا ترحم.
 

انتقل التنافس الأميركي – الصيني في الفترة الأخيرة إلى حلبة المجابهة الاستراتيجية، إذ برزت ردة الفعل الصينية السلبية إزاء خطة واشنطن نشر صواريخ متوسطة المدى في منطقة آسيا-المحيط الهادئ، وتفاقمت الحرب التجارية مع تصنيف واشنطن للصين كدولة “تتلاعب بالعملة”. ويتعدى التوتر بين الجانبين هذه الملفات إلى اختبارات قوة حول النزاعات الدائرة من الملف الإيراني إلى كشمير وهونغ كونغ وصولا إلى شبه الجزيرة الكورية.

ومن الواضح أننا أمام نظرتين للعالم ورؤيتين أيديولوجيتين تتجابهان ولا تتقاسمان في المدى المنظور أي مخرج مشترك لتنظيم العولمة أو إعادة تشكيل النظام الدولي. والأدهى أن المشهد العالمي يتخبط باضطراب متصاعد مع عودة سباق التسلح بين الدول الكبرى والقوى الإقليمية ومن دون وجود حوكمة وضوابط في تنافسية لا ترحم.

وفي الأسبوع الماضي، أكد انسحاب الولايات المتحدة رسميا من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى التي كانت قد وقعتها مع روسيا عام 1987 العودة إلى نمط جديد من الحرب الباردة بين القطبين العالميين السابقين. لكن مطالبة واشنطن بمفاوضات تشمل موسكو وبكين حول القدرات الصاروخية تكشف أن الحرب الباردة الجديدة تشمل الولايات المتحدة في مواجهة كل من روسيا والصين، وتضع هذا الثلاثي العالمي الصاعد على صفيح ساخن في أكثر من ميدان.

مع إعلان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في 2011، عن تحويل الولايات المتحدة تركيزها إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ وجعلها أولوية استراتيجية، أصبح المدى الآسيوي الواسع من أهم مسارح إعادة التموضع الدولي نظرا لما تختزنه هذه القارة من ثروات وسيولة نقدية ومواقع حساسة. وتعيش هذه المنطقة من آسيا والمحيط الهادئ على وقع توازن إقليمي دقيق بين التبعية الاقتصادية للعملاق الصيني وغطاء الحماية الأمنية الذي توفره الولايات المتحدة لحلفائها والذي يكرسها قوة وازنة في القارة الأكبر سكانا في العالم. وكما كانت أوروبا محور الحرب الباردة السابقة تشهد آسيا حاليا على وقائع الحرب الباردة الجديدة إن في غربها (الشرق الأوسط والخليج)، أو في شبه القارة الهندية (الهند، باكستان، بنغلاديش، نيبال، سريلانكا) أو في الشرق الأقصى.

تزامنا مع عدم حصول اختراق جدي في الأزمة الكورية والاحتجاجات الواسعة في هونغ كونغ ضد “النموذج السلطوي الصيني” والاحتكاكات في بحر الصين الجنوبي ومستقبل تايوان واندلاع اختبار قوة حول كشمير واحتدام النزاع حول الملف الإيراني، أتى الجدل حيال قرار واشنطن بخصوص نشر الصواريخ في آسيا ليثير مخاوف الصين (رغم بعد مسافة القواعد المقترحة حوالي 3 آلاف كيلومتر) التي لم تتردد في التذكير بأزمة الصواريخ الشهيرة في كوبا والتحذير من سيناريو مماثل. وفي خلفية كل ذلك توجد التنافسية الاقتصادية الحادة وتوسع القوة الصينية عبر مشروع الحزام والطريق (طرق الحرير الجديدة) الذي يأخذ من القارة الآسيوية مكان انطلاقه ومداه الحيوي الجيواستراتيجي.

ساد الحذر الأسواق المالية بخصوص النمو الاقتصادي العالمي نتيجة النهج الترامبي بخصوص الرسوم الجمركية على الصين ومجموعة “هواوي” (الجيل الخامس للاتصالات) والخلاف حول سعر صرف اليوان بالقياس للدولار، والجهد الصيني- الروسي للاستغناء عن العملة الخضراء، لأن تشابك أكبر اقتصادية في العالم كان حيويا للطرفين وللاقتصاد العالمي ولأن التوترات الحالية ستنعكس على الدورة الاقتصادية بالإجمال.

وتزداد الأمور حدة مع التوتر بخصوص معاهدة الصواريخ متوسطة المدى والمواقف من أبرز نزاعات الساعة. وفي هذا السياق لا مناص من ربط التفاعل بين عدة ملفات أولها المبارزة في الخليج ومسألة كشمير والأزمة الكورية. وليس من قبيل المبالغة القول إن الصين لن تسهل مجانا التسوية مع بيونغ يانغ إذا لم تحصل على مقابل بخصوص تايوان وبحر الصين الجنوبي. ومن هنا تنظر بكين بقلق كبير إلى اهتزاز الوضع في هونغ كونغ لكنها لا تملك الإثبات بأن واشنطن تحرك الأمور من وراء الستار. أما بالنسبة للتصعيد المفاجئ حول كشمير والاحتدام بين الهند وباكستان على دروب “طرق الحرير الجديدة” فلا تفصله أوساط أوروبية عن رد أميركي محتمل على الدور الصيني في الملف الإيراني، وكل هذا يدلل على الترابط بين هذه الملفات لجهة صراعات الكبار ومحاولة تمرير مصالحهم.

وتواصل الصين حاليا استيراد النفط الخام من إيران، رغم إنهاء الولايات المتحدة استثناءات كانت منحتها لبعض الدول من العقوبات المفروضة على طهران. وكشف بحث أعدته ثلاث شركات للبيانات أن الصين واصلت، في شهر يوليو الماضي، استيراد النفط من إيران، حيث جرى تفريغ ما بين 4.4 و11 مليون برميل من النفط الخام الإيراني في الصين، أو ما بين 142 و360 ألف برميل يوميا. علما أن الإحصاءات المتداولة تشير إلى أن تصدير النفط الإيراني لا يتجاوز حاليا نصف مليون برميل يوميا وهذا يدلل على أهمية الواردات الصينية.

بيد أنه بالرغم من حرص بكين على دعم طهران المهمة استراتيجيا بالنسبة للتوسع الصيني، وبالرغم من حماية بكين لبيونغ يانغ وكذلك التموضع الأميركي في آسيا ودعم الهند، لا يعتقد أن الحرب الباردة الجديدة ستنحرف نحو صدام مباشر داخل الثلاثي العالمي الصاعد.

في الماضي غير القريب نصح المنظر الأميركي الاستراتيجي زبيغنيو بريجيتسكي بوجوب قبول الولايات المتحدة لشراكات موضعية مع كل من روسيا والصين للحفاظ على موقع القوة العظمى الوحيدة بأسلوب مرن. لكن تصدع العولمة واحتدام التنافسية يقودان إلى التشكيك بهكذا سيناريو إيجابي حصرا وترجيح استمرار مخاض إعادة تشكيل النظام العالمي عبر الحروب بالوكالة والحرب الاقتصادية ونزاعات الثورة الرقمية.