لم يُثِر أيّ سياسي في لبنان الجدل في خطابه السياسي بمقدار ما فعل رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل. لا يُمكن أن يمرّ خطاب أو كلمة أو مؤتمر صحافي لباسيل كـ»نسمة هادئة». فهو وعلى عكس غالبية السياسيين اللبنانيين، لا يعتمد المواربة في خطابه أو ينمّق كلماته خوفاً من «زعل» الآخرين، في بلدٍ محكوم بحساسيات تاريخية، سياسية، دينية وطائفية. لا يعترف بـ»تابو»، متمسّكاً بما يعتبره حقاً، وبأسلوبٍ صريح وواضح ومباشر يوصل رسائله إلى الرأي العام والسياسيين على حدٍ سواء. خطابٌ إستفزّ كثيرين، خصوصاً من الطوائف الأخرى، لكنّه أربح رئيس التيار أيضاً، فساهم إضافةً إلى عوامل أخرى بتكوينه أكبر كتلة نيابية مسيحية والحصول على أكبر حصة وزارية.
 

يسأل كثيرون: لماذا لا يُغيّر باسيل خطابه؟ لماذا لا يعتمد أسلوباً مرناً وغير مستفزّ؟ لماذا لا يكفّ عن مهاجمة الآخرين؟ في المقابل، اعتقد البعض أنه بعد حادثة قبرشمون وما أدّت إليه من أزمة وتعطيل، سيعتمد باسيل خطاباً مغايراً أقلّ استفزازاً، خصوصاً أنّ خطاباً واحداً لباسيل خلال جولاته على المناطق اللبنانية في المرحلة الأخيرة، لم يَسلم من ردود الفعلِ السياسية والشعبية، إن كانت إيجابيةً أو سلبية، من بشري إلى طرابلس والبقاع والجبل.
لكن، على رغم أنّ خطابات باسيل إرتجالية، إلّا أنّها ليست عشوائية، فالرجل يُتقن فنّ الخطاب السياسي وأدواته. ويعلم تماماً تأثير الخطاب شكلاً وأداءً ولغةً ومضموناً وتوقيتاً على الجمهور وفي خلق رأي عام. وتختلف رؤيته للربح والخسارة عن رؤية بقية السياسيين. لذلك، الرهان على تغييره خطابه ساقط، والبرهان خطابه الأخير خلال وضع حجر الأساس لمقر التيار في 7 آب الجاري.

من خصوصيات باسيل خطابه بالمضمون والشكل والأداء والطريقة، ومهما تشارك الأفكار مع الآخرين، إلّا أنه هو مَن يقرّر شكل خطابه ومضمونه. فرئيسُ «التيار» يُعدّ كلَّ صِيَغ خطاباته. وتكون الخطاباتُ الرسمية التي يلقيها بصفته وزيراً للخارجية مكتوبةً، على عكس خطاباته كرئيسٍ للتيار وتكتل «لبنان القوي» النيابي.

يحدّد باسيل الموضوعات السياسية التي يريد تناولها وإيصال الرسائل من خلالها، إن كانت موجَّهة سياسياً أو إلى الرأي العام، ويعلم تماماً على ما يُركّز في خطابه. كذلك، تفرض الأحداث السياسية نفسَها في كلمته، لذلك يتولّى هو شخصياً التحدث في بعض الأحيان، بعد إجتماع تكتل «لبنان القوي». ويُستدلّ من حديثه شخصياً على أهمية الحدث فحين يتحدّث هو يكون الهدف إيصال رسالة معيّنة، وإيصال الموقف بدقة، وبأسلوبه ولغته هو.

أمّا استشارة باسيل لبعض الأشخاص أو استطلاع آرائهم فيعتمد على الصفة التي يلقي حسبها خطابه، فهو شخصية متعدّدة الإتجاهات، وكوزيرِ خارجيةٍ يتعامل مع فريق عمله السياسي والديبلوماسي في الوزارة فقط، إذ إنّ ما يتصل بالوزارة هو عمل رسمي تابع للدولة اللبنانية. وفي الشق السياسي العام، يستشير كرئيسِ تيار وتكتلٍ نيابيّ عدداً من الأشخاص، ويُعتبر مستشارُه أنطوان قسطنطين من أبرز المشاركين في عملية «عصف الأفكار» ووضع الخطوط الرئيسية للرسالة السياسية التي يريد باسيل إيصالها في كلمته، إذ إنّه يحدّدُ النقاطَ والأفكارَ التي سيتناولها في خطاباته ومؤتمراته الصحافية، بعد عمليةِ جوجلةِ أفكارٍ (brainstorming) مع فريق عمله.

وعلى صعيد إعداد الخطاب أو الكلمة التي سيلقيها في أيّ مناسبة، لا يكتب أحدٌ لرئيس التيار، وهذا الأمر ظاهر، إذ إنّه يستفيض في شرح أفكاره، وباللغة العامية من دون قراءةِ أو تلاوةِ كلمةٍ مكتوبةٍ بالفصحى، إن على ورقة أمامه أو على شاشة «prompter» غير ظاهرة. وهذا أحد الأمور التي تميّز باسيل عن زعماء ومسؤولين عدة يقرأون ما يُكتب لهم أو يتحدّثون عمّا حفظوه لا عن أفكارهم الخاصة، فيظهر ذلك من خلال تلعثمهم وعدم انسجامهم وعفويّتهم خلال «فعل التلاوة».

أمّا بالنسبة إلى جولاته، فيطّلع باسيل قبل أيّ جولة على المعطيات في المنطقة التي سيزورها، ولا يذهب قبل تكوينه تصوُّراً شاملاً عنها. ويختزن الأفكارَ في رأسه، ويرتجل خطابَه خلال الزيارة ولا يكتبه. كذلك، يتشاور مع كلِّ شخصٍ معنيّ بالزيارة ومع نواب التكتل ومسؤولي التيار في المنطقة، ويكوّن معطيات عن وضع البلديات وعن مشكلات الناس وأوضاعهم. ويضع نوابَ المنطقة والمعنيين بصورة مغزى الزيارة والموضوعات التي يريد معالجتها.

ويؤكّد مَن يُشاركون في جلسات «العصف الفكري» مع باسيل أنّها حقيقية لا شكلية، إذ يحصل نقاشٌ ويعترضُ باسيل على أفكار تُطرح عليه ويقتنع بأخرى. أمّا خلاصة الفكرة فهو الذي يعبّر عنها بطريقته وأسلوبه. كذلك، يحدّد مسبقاً الرسائل التي يريد توجيهَها، وبأيّ أسلوبٍ يريدُ أن يوجّهَها. ويتعامل مع خطابه كمهندس فيُنظّم الأفكارَ في رأسه ويركّبها وكأنه يهندس مبنى، ويستعين فقط ببعض النقاط التي يكتبها على ورقة. وعلى سبيل المثال، كان يضع باسيل في مؤتمره الصحافي بعد خلوة تكتل «لبنان القوي» حول الملف الزراعي، ورقةً تتضمّن نقاطاً فقط، مثل: الرهبنة المارونية والأرض، المادة 80... 

أمّا بالنسبة إلى ردود الفعل على خطابه ومواقفه، فلا يتجاهلها رئيس التيار، بل يستمع جيداً إليها، ولكنها لا تزحزحُه عن إقتناعاته، ولذلك هو لا يبرّر نفسَه أبداً. ولا يرضخ أو يتراجع أو يقبل بتغيير طريقة إيصال مواقفه ورسائله السياسية، مهما اشتدّت ردود الفعل السلبية والمطالبة بتغيير خطابه. ويؤكّد قريبون منه أنّه يملك شجاعة الإعتذار إذا أخطأ، ولكنه لا يبرّر مطلقاً أيَّ موقف يتخذه إذا تعرّض للإنتقاد والإعتراض، وذلك لأنه يكون مقتنعاً بما يقوله بصرف النظر عن النتائج. ولهذا السبب أشار في مناسبات عدة إلى أنه يتحمّل كلفة عالية في السياسة نتيجة خطابه. 

ويعترف قريبون من باسيل أنّه شخصيةٌ مثيرةٌ للجدل وأنّ خطابَه يُحدث جدلاً بدوره، وذلك لأنّ مواقفَه واضحة وحاسمة، وليست ملتبِسة. ويشددون على أنّ أسلوبه يعبّر عن قناعته وفكره، وهناك تطابقٌ بين ما يفكّر فيه وما يعبّر عنه، خلافاً لإعتقاد الناس أنه يُخطئ أو يَظهر حاداً في التعبير، فيما أن ليس هذا ما يقصده في المضمون. بل يختار باسيل الكلماتِ التي تعكس تماماً ما يجول في وجدانِه، ولا يلبس أيَّ قفّازات عندما يريد أن يقاربَ أيَّ مسألة، خصوصاً المسائل التي يعتبرها كيانيةً ووجودية. 

في المقابل، يرى البعض أنّ باسيل يُمكنه إيصالُ الرسائل التي يريدها إنما بلغةٍ وأسلوبٍ مرِنين وغير مستفزّين، وبمضمونٍ لا يثير الحساسيات، خصوصاً أنه يعمد في معظم خطاباته الى التذكير بالماضي وفترة الحرب. «إملاءُ» البعض على رئيس التيار أسلوبَه، أمرٌ لا يقبله، فهو يعبّر عن رأيه، وهو مَن يقرّر إذا كان يريد أخذَ رأيِ البعض في الإعتبار أم لا، ويحترم رأيَ مَن يقول عن حسن نيّة: «يا ريت الوزير بعبّر بلطف». لكن في حالة صهر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وزير الخارجية ورئيس تكتل «لبنان القوي» و»التيار الوطني الحر» الإستثنائية في الحياة السياسية اللبنانية، يبقى «الأسلوبُ هو الرجل»، (le style c’est l’homme)، الأديب الفرنسي جورج دي بيفون.