يعرف أردوغان أن حراك قواته داخل أي عملية عسكرية يلوّح بها يحتاج إلى استخدام أجواء تسيطر عليها روسيا، ولا شيء يوحي أن قاعدة حميميم ستفتح هذه الأجواء للفتك بالأكراد.
 

توصل الأتراك والأميركيون إلى اتفاق حول المنطقة الآمنة التي تطالب بها تركيا في شمال سوريا. ما نعرفه حتى الآن أنه قضى بإنشاء مركز عمليات مشترك لإدارة هذه المنطقة، وأنه أتى بعد تصريح لوزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، تحدث فيه عن اقتراب واشنطن من وجهة نظر أنقرة في هذا الصدد. بيد أن في الاتفاق ما يشي أنه اتفاق حد أدنى لن تحصل تركيا بموجبه على ما تريد، وأن الولايات المتحدة تسعى من خلاله لعدم القطع مع تركيا والتعامل معها بصفتها حليفا أطلسيا كامل المواصفات.

والحال أن واشنطن أدركت أن أنقرة تحتاج لاتفاق ما يحفظ ماء تركيا ورئيسها بعد أن أرسلت قبل ذلك رسالة قوية على لسان وزير الدفاع مارك إسبر أن أمر الاجتياح التركي “غير مقبول وسنمنع ذلك”. والحال أيضا أن الأميركيين أدركوا أن لا عجالة داهمة تبرر اندفاع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باتجاه التهديد والتهويل بشنّ عملية عسكرية لإقامة المنطقة الآمنة التي تطالب بها أنقرة في شمال سوريا وخصوصا في شرقها، وأن أوجاعاً داخلية تدفع أردوغان لتوجيه البوصلة نحو الخارج.

والظاهر أن شيئاً آخر يقف وراء همّة الرجل لإطلاق حملة تجييش يرادُ لها النهل من عصبية قومية تركية ضد الأكراد من جهة، وشدّ عصبية “وطنية” في التلويح بأن قرار تركيا مستقل وسينفذ بغض النظر عن رأي الولايات المتحدة وأنشطتها في سوريا من جهة أخرى. وما تعبق به جلبة أردوغان ما يشبه شعبوية تُطلق عادة في الحملات الانتخابية. فهل نحن على أبواب انتخابات قادمة؟

في تركيا من بدأ يتوقع أن يلجأ رجل تركيا القوي إلى انتخابات تشريعية مبكرة. ومنطق هذا الرأي أن أردوغان قرأ جيدا تحولين.

الأول متعلّق بصدمة الانتخابات المحلية الأخيرة التي خسر بها حزب العدالة والتنمية عددا لافتا من المدن الكبرى وفي مقدمها إسطنبول التي خسر فيها الحزب مرتين. انتقلت إدارة المدينة، التي تعني الكثير لأردوغان شخصيا، إلى يد المعارضة.

والثاني أن التصدّعات داخل الحزب الحاكم لم يعد بالإمكان إخفاؤها وأن الانشقاقات التي قامت بها شخصيات تاريخية حزبية كبرى (أهمها عبدالله غول وأحمد داود أوغلو) تنذر بأن الأمور ذاهبة إلى مزيد من التدهور في شعبية أردوغان وفي مكانة حزبه داخل المشهد السياسي التركي العام.

الذهاب إلى انتخابات مبكرة، إذا صدقت التحليلات في هذا الاتجاه، قد يكون هدفه التخفيف من خسائر أكبر قد تكون موجعة إذا ما تركت الأمور وفق المواعيد الانتخابية العادية. لا يريد أردوغان للخصوم والمنشقين عن حزبه أن يتحضروا في الوقت المتبقي للانتخابات المقبلة لإلحاق هزيمة وجودية ضد حزبه. وهو في احتمال مسارعته إلى انتخابات مبكّرة يريد الاستفادة مما يملك والبناء عليه لضبط خسائره ومنع الانقلاب عليه في صناديق الاقتراع.

على هذا يمكن أن نفهم الغبار الذي أثاره أردوغان حول تلك المعركة وتلك المنطقة الآمنة في شمال سوريا “شاء من شاء وأبى من أبى”. بيد أن ما أُعلن يكشف أن تركيا لن تدير المنطقة الآمنة وحدها كما كانت تطالب، بل أن الأمر سيكون بالشراكة مع واشنطن، وأن عدم الكشف عن تفاصيل المنطقة الآمنة يفصح أن ما اتفق عليه أقل بكثير من السقوف العليا التي ردحت بها منابر أنقرة في الأيام الماضية.

ارتفعت وتيرة الكلام التركي حول المنطقة الآمنة شمال سوريا عشية وصول وفد عسكري أميركي إلى تركيا لبحث هذه المسألة. كان سهلا أن يُفهم أن الجلبة التركية مملّة في آلياتها تهدف إلى تصليب أوراق أنقرة داخل غرف المفاوضات العسكرية مع وفد واشنطن. والظاهر أن أردوغان يشتغل داخل هامش غموض يتيحه صمت واشنطن ورمادية سلوكها في ما يتعلق بسوريا، كما بذلك المربك المتعلق بأزمتها الراهنة مع إيران.

يشعر الرئيس التركي أنه على الرغم من ارتكاب تركيا لـ”المحرم” بشراء منظومة أس- 400 الصاروخية الروسية، فإن الأمر قد يمر ولن يؤثر على علاقة بلاده مع الولايات المتحدة.  لم تفرض واشنطن حتى الآن عقوباتها الموعودة وأرسلت إشارات لا تقلق أردوغان.

أخلت محكمة أميركية في ولاية بنسلفانيا، نائب المدير العام السابق لمصرف “خلق” التركي محمد هاكان أتيلا، بعد توجيه اتهامات له في وقت سابق، بخرق العقوبات على إيران. عُدّ ذلك في أنقرة إشارة ودّ أميركية لأردوغان شخصيا الذي لطالما استنكر اعتقال الرجل وطالب بإخلاء سبيله.

ومن يصغي إلى مطالعة ترامب في استنكار اقتناء أنقرة لمنظومة الصواريخ الروسية، يسمع مرافعة دفاعية عن سلوك تركيا و”اضطرارها” مُجبرة إلى اللجوء إلى الخيار الروسي بعد أن سدت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما سُبل اقتنائها لمنظومة الباتريوت الأميركية. وفي ذلك ما يقرأه أردوغان ودّاً شخصيا له، وتمسكاً أميركيا بتركيا حليفا أطلسيا لا استغناء عنه.

حتى الآن بدا أن مداولات ما قد تتيح لواشنطن والحلف الأطلسي معا ابتلاع الحدث التركي المرّ أو على الأقل الحدّ من مضارّه، وبالتالي المضيّ في إيجاد صيغة تعاون أثمرت هذا الاتفاق المعلن حول المنطقة السورية الآمنة. ذهب أردوغان بعيدا في التدلل على واشنطن لعلّه يَلقى من تسامح واشنطن رعاية لطموح تركيا في النفاذ لأكثر من 30 كلم داخل الأراضي السورية. تودّ تركيا القضاء بذلك على الجيب الكردي الذي تسيطر عليه وحدات حماية الشعب الكردية شرق الفرات، والتي تعتبرها أنقرة ذراعا سورية لحزب العمال الكردستاني المصنّف إرهابيّا. يعوّل الرجل على ذلك وهو يعلم جيدا أن واشنطن لن تمنحه في سوريا ما يتجاوز مصالحها، وما يتجاوز خصوصا الاتفاقات المضمرة مع روسيا.

بيد أنّ الصمت الروسي بالمقابل يُخفي امتعاضا من طموحات أردوغان داخل بلد يفترض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه بات جزءا أصيلا من الفضاء الروسي الاستراتيجي العام.

يهمّ بوتين أن تتعمق الهوة التي تتوسع بين تركيا والعالم الغربي. يهم موسكو أن يتفاقم التوتر بين أنقرة والاتحاد الأوروبي، وأن تشتد ريبة الحلف الأطلسي من توجهات تركيا. ويهم روسيا أن تشوب العلاقات التركية الأميركية تصدعات بنيوية نهائية كبرى.

نفخت موسكو مؤخرا هواء كثيرا في أشرعة عمليات التنقيب عن الطاقة التي تقوم بها تركيا في شرقي المتوسط. أبدت موسكو، على لسان وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك استعدادها، للمساهمة في تلك الأعمال بما مثّل دعما سياسيا لتركيا ضد المعترضين في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (لاسيما اليونان وقبرص) ومصر وإسرائيل. يبحث بوتين عن توسيع استثمارات بلاده في مجال الطاقة، وينشد تعاونا تركيّا أفضل في منطقة إدلب، لكن ذلك لا يعني أن يدخل أردوغان إلى “ميدان بوتين” في سوريا.

يمتلك أردوغان رشاقة كبرى لإطلاق وعود “انتخابية” كبرى تَعِدُ بحملة عسكرية واسعة في شمال سوريا والعودة عن تلك الوعود، أو الاكتفاء بما هو أقل منها (وفق ما تم التفاهم عليه مع الأميركيين). لم تكن واشنطن لتذهبَ بعيدا في مجاراة أردوغان وهي التي سرّبت في الأيام الأخيرة تقارير خطيرة عن عودة داعش إلى المنطقة، ما يعني تمسّكا بالحليف الكردي وتمسكا بدعمه عسكريّا. بالمقابل لن تسمح موسكو أيضا بأن تصبح تركيا (من خلال منطقة نفوذ كبرى) شريكا لروسيا في تقرير مصير سوريا في المستقبل، خصوصا إذا ما أتى أيّ تغلغل تركي باتفاق ورعاية من الولايات المتحدة.

تمتلك موسكو قرار الحرب والسلم في سوريا. تتوقف هجمات قوات النظام والميليشيات التابعة لإيران بإرادة موسكو، وتستأنف بضوء أخضر روسي. يعرف أردوغان أن حراك قواته العسكرية داخل أي عملية عسكرية شاملة كان يلوّح بها يحتاج إلى استخدام أجواء تسيطر عليها روسيا، ولا شيء يوحي أن قاعدة حميميم الروسية قرب شواطئ اللاذقية ستفتح هذه الأجواء للفتك بالأكراد، حلفاء واشنطن وأصدقاء موسكو.

ومع ذلك فإنّ أردوغان يتمتع هذه الأيام بحنان بوتين الذي يمعن في استمالته نحو موسكو، وبتفهم ترامب الذي لا يريده أن يبتعد كثيراً عن فضاء واشنطن. بيد أنّ الرئيس التركي آثر التفاهم مع واشنطن ذلك أن لهذا الدلال صلاحيات مؤقتة تنهيه فوراً أيّ تفاهمات حتمية حول سوريا بين رجُليْ الكرملين والبيت الأبيض.