اليوم، واليوم فقط، يمكن للموارنة أن يُقيموا العزاء على المأسوف عليها المارونية السياسية
 
المارونية السياسية: مصطلح نحتَهُ المفكر اللبناني العروبي مِنح الصلح، ومع نفيه "أبوّة" المصطلح، إلاّ أنّه سرى في شرايين الحياة السياسية اللبنانية، وأطلقت هذه "الجماعة" السياسية منذ استقلال لبنان عام ١٩٤٣ حتى مشارف الحرب الأهلية حيوية سياسية وثقافية وأدبية أنتجت النظام اللبناني الذي عرفه اللبنانيون منتصف القرن الماضي وتغنّوا به، وانقسم اللبنانيون كعادتهم حول حكم المارونية السياسية وفعالياتها وإنجازاتها وخيباتها، وغالباً ما تغنّى مناصروها بإنجازات الفترة الشهابية وصعودها وألقها: الضمان الاجتماعي، البنك المركزي، أجهزة الرقابة، مجلس الخدمة المدنية، معهد الإدارة والتدريب، معهد الدروس القضائية، المشروع الاخضر، كهرباء لبنان، هذا فضلاً عن إرساء النظام الديمقراطي البرلماني، والذي غدا واحة ديمقراطية في صحارى ملَكيّات التخلُّف والظلامية، وجمهوريات الأجهزة الأمنية والمخابرات العسكرية والأحزاب الاستبدادية في طول العالم العربي وعرضه، أمّا المآخذ العديدة على فترة هيمنة المارونية السياسية فاقتصرت على توصيفات اليساريين السلبية، وكانت تلك المآخذ عبارة عن شعارات وعناوين( كليشهات) لا تُشكّل بدائل واقعية، اللهمّ حتى طرحت الحركة الوطنية اللبنانية برنامج الإصلاح المرحلي منتصف العام ١٩٧٥، إلاّ أنّه ما لبث أن سقط تحت سنابك الحرب الأهلية، وتزامنَ سقوط برنامج الإصلاح المرحلي مع سقوط المارونية السياسية إياها في آنٍ واحد مع اندلاع الحرب الأهلية مطلع العام ١٩٧٥، وفي حين ذهب البعض للقول بأنّ قائد القوات اللبنانية الرئيس الراحل بشير الجميل كان آخر مُدافعٍ عنها، إلاّ أنّ التسجيلات الصوتية لبشير الجميل والتي نُشرت بعد استشهاده، تُظهرهُ أحد أبرز منتقدي تلك المارونية السياسية التي أوصلت البلد إلى حمأة الحرب الأهلية، ودليلُه على ذلك اضطراره لقيادة ميليشيا مقاومة للحفاظ على البلد الذي أضاعتهُ أيدي حُماة المارونية السياسية ولم تعرف كيفية الحفاظ عليه.
 
 
يُجمع كثيرون في أيامنا هذه على أنّ اتفاق الطائف وجّهَ لكمة جانبية قويّة للمارونية السياسية، أفقدتها وعيها ووضعتها في حالة غيبوبة مديدة، حتى جاء مؤخّراً الوزير جبران باسيل ليقول بأنّ "السُّنيّة السياسية" قامت على جثّة المارونية السياسية، وهو يرى في "مشاريعه" الطائفية والعنصرية ممرّاً لا بدّ منه لاستعادة تلك الأمجاد الغابرة للمارونية السياسية"الفقيدة"، في حين يرى المتنوّرون والمُطّلعون على حوادث التاريخ وعِبَره، أنْ آن الأوان للخروج من شرانق " الطوائفيّات"، سواء كانت مارونية أو سُنّية أو شيعية أو درزية، وأنّ عجلات التاريخ لا يمكن أن تعود للوراء، وأنّ أوهام وطموحات باسيل، ومشاريعه" الجهنّميّة" إنّما تُمهّد في أحسن الأحوال لجولات عنفٍ دموية يمكن أن تتحول إلى حرب أهلية متنقلة، ويزداد الأمر ضيقاً وبرماً عندما نسمع بالأمس السياسي اللبناني المخضرم كريم بقرادوني، والذي خدم ردحاً من الزمن القائد الراحل بشير الجميل، يُقارن أحوال لبنان اليوم في عهد الرئيس ميشال عون مع حقبٍ ماضية، فيرى في باسيل صورة زعيم ماروني صاعد، وصعوده يُذكّر (عند بقرادوني) بصعود بشير الجميل، مع فارق ( لصالح باسيل طبعاً) أنّ بندقية الحرب الأهلية كانت خير مساعدٍ لصعود بشير، في حين أنّ طريق باسيل صعوداً صعبة ووعرة، لأنّه يحمل سلاح "الكلمة"، وهذا القول لا يُثير سوى الإستغراب وربما السخرية، إذ لم يؤثر حتى اليوم في سجل الوزير باسيل كلمة مؤثّرة في نضالات اللبنانيين الوطنية، أو حكمة خالدة في نبذ التعصب والتمييز العنصري والديني والمذهبي، ولا رؤيا استشرافية لمستقبل لبناني واعد بدولة عصرية مدنية وديمقراطية.
 
فعلاً إنّها مُنتهى انحطاط المارونية السياسية عندما يُقارَن جبران باسيل بالرئيس الراحل بشير الجميل، أو عندما يصف بقرادوني الرئيس عون بالجبل، في حين "يُحشر الرؤساء السابقون من بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب وسليمان فرنجية والياس سركيس وبشير الجميل، انتهاءً بالرئيس السابق ميشال سليمان" في خانة الأقزام.
 
اليوم، واليوم فقط، يمكن للموارنة أن يُقيموا العزاء على المأسوف عليها المارونية السياسية والتّرحُّم على رجالاتها العظام.