هناك فرصة أمام الجزائر. لا عيب في الاستفادة من تجربة السودان، التي قد تنجح وقد لا تنجح، لكنّها تبقى دليلا على وجود مؤسسة عسكرية، تضمّ من دون شكّ ضباطا متهورين، لكنّها قادرة على التعاطي مع الأحداث بواقعية.
 

طغت أحداث السودان على قضايا أفريقية أخرى، بما في ذلك قضيّة الجزائر. جاء الاتفاق الموقّع بين العسكر وممثلي الحراك الشعبي السوداني تتويجا لرغبة مشتركة في قيام دولة مدنية تؤسس لسودان جديد. هناك فهم لدى الأحزاب والقوى السياسية، باستثناء تلك التي تعيش في الأوهام، لصعوبة عودة العسكر إلى الثكنات بين ليلة وضحاها. وهناك لدى كبار الضباط السودانيين استيعاب لضرورة أخذ الشارع السوداني، الذي أظهر أنّه لن يستكين من دون تحقيق القسم الأكبر من مطالبه، في الاعتبار.

 

بكلام أوضح، لم يعد في استطاعة كبار الضباط تجاهل الشارع، كما لم يعد الشارع يراهن على الاستغناء عن كبار الضباط الذين لعبوا دورا أساسيا في إخراج عمر حسن البشير من السلطة بعدما أمضى ثلاثين عاما رئيسا، ولعب كلّ الأوراق التي تمكنه من البقاء في هذا الموقع، بما في ذلك ورقة انفصال الجنوب عن الشمال.

 

ليس معروفا بعد هل يمكن للسودان أن يعود في يوم من الأيّام بلدا يحلو العيش فيه، بلدا يحلو الاستثمار فيه، خصوصا في المجال الزراعي؟ ستتوقف أمور كثيرة على مدى التزام كبار الضباط بالاتفاق الذي وقعوه مع ممثلي الحراك الشعبي والذي سميّ “وثيقة الإعلان الدستوري”. المهمّ مستقبلا أن تتوقف شهية العسكر إلى السلطة بسبب فشل المدنيين في إدارة شؤون الدولة. المهمّ أن لا يظهر فجأة إبراهيم عبود آخر أو جعفر نميري آخر أو عمر حسن البشير آخر، فيسقط السودان مجددا في فخّ الأنظمة التي يديرها ضابط لا همّ له سوى الاحتفاظ بالكرسي الرئاسي.

 

هناك إشارات سودانية تدعو إلى التفاؤل، لكنّ هناك إشارات أخرى تدعو إلى الحذر الشديد، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار أن مجازر حصلت على يد ضباط متهورين في الأيام التي تلت التخلص من عمر حسن البشير. كشفت تلك المجازر وجود عقلية ما زالت تتحكّم بعدد لا بأس به من كبار الضباط. في أساس هذه العقلية فلسفة القمع والتخلّص من الآخر، لمجرّد أن لديه رأيا مختلفا.

 

لا شكّ أن الفضل في النجاح السوداني، الذي لا يزال نجاحا نسبيا، يعود إلى الدور الذي لعبته قوى عربية فاعلة ترغب في تفادي التدهور في هذا البلد الذي يعتبر الاستقرار فيه جزءا لا يتجزّأ من الاستقرار في كلّ منطقة القرن الأفريقي، كما في مصر. ما لا يمكن تجاهله أن نهر النيل يظل شريان الحياة بالنسبة إلى مصر والسودان، وأن التفاهم بين البلدين يبقى أفضل ضمانة لمواجهة الأخطار المشتركة، إنْ على صعيد النيل، أو على صعيد الأمن في البحر الأحمر.

 

لا شكّ أيضا أن الفضل في النجاح السوداني يعود أيضا إلى الدور الذي لعبه رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، الذي أظهر أنّه يمتلك فهما مختلفا للعلاقات بين دول المنطقة، فضلا عن عقل استراتيجي يقوم على التنمية والاستثمار في كلّ ما من شأنه نقل دول القرن الأفريقي إلى وضع جديد، بعيدا كلّ البعد عن حساسيات الماضي وعقده، وهي حساسيات وعقد تحكّمت طويلا بالعلاقات الإثيوبية – الإريترية، على سبيل المثال، وأدّت إلى حروب عبثية بين الجانبين.

 

في استطاعة الجزائر الاستفادة بدورها من الحدث السوداني بدل الدوران المستمرّ في حلقة مقفلة. أظهر الشعب الجزائري في السنوات الأخيرة وعيا كبيرا. تفادى السقوط في فخّ “الربيع العربي” الذي أطاح زين العابدين بن علي وتكفّل بالتخلّص جسديا من معمّر القذافي. مارس الجزائريون ضبط النفس ولم يُقْدم الجيش على أي عمل طائش في مواجهة التظاهرات التي كانت تنطلق بين حين وآخر. عرف الجيش كيف يضبط تلك التظاهرات وتفادى سقوط قتلى. أكثر من ذلك، عمل الجيش على وضع حدّ للمهزلة التي كان اسمها الولاية الخامسة لعبدالعزيز بوتفليقة الذي لم يكن يستحقّ تلك النهاية المحزنة لولا جشع أفراد الحلقة الضيّقة المحيطة به.

 

ما الذي ستفعله المؤسسة العسكرية الجزائرية في المرحلة المقبلة؟ هل تعتقد أنّ في استطاعتها العودة إلى عهد هواري بومدين الذي لم ينته إلا في العام 1999 عندما انتخب عبدالعزيز بوتفليقة، بدعم منها، رئيسا للجمهورية؟

سيتوقّف الكثير على ما إذا كان هناك وعي لدى الذين يتحكمون حاليا بالمؤسسة العسكرية للواقع الجزائري الجديد. صحيح أن الحراك الشعبي في الجزائر لم يستطع إنتاج قيادات سياسية قادرة على الذهاب إلى أبعد من الكلام عن شعارات عامة من نوع الدولة المدنية، لكنّ الصحيح أيضا أن ليس ما يشير إلى أنّ الحراك الشعبي في الجزائر سيتوقف. هذا الحراك مستمرّ منذ 24 أسبوعا. الناس لا تزال تنزل إلى الشارع كلّ يوم جمعة وتتظاهر بشكل حضاري.ط

أي دروس ستستخلصها المؤسسة العسكرية من الأحداث التي بدأت برفض الشعب الجزائري استمرار مهزلة انتخاب بوتفليقة رئيسا على الرغم من أنه فقد كلّ قدرة على النطق منذ العام 2013، أي منذ ما قبل انتخابه رئيسا لولاية رابعة؟

 

أمام المؤسسة العسكرية الجزائرية فرصة لا تعوّض كي تنقل البلد إلى مرحلة جديدة بعيدا عن الأوهام التي تحكّمت بها منذ العام 1965. في حال لا تستطيع الجزائر المصابة بعقدة المغرب الاستفادة من التقدّم الذي تشهده المملكة، خصوصا في السنوات العشرين الأخيرة، لماذا لا تستفيد من التجربة السودانية فيكون هناك انتقال تدريجي إلى عهد جديد، عهد الدولة المدنية التي لا تسيّرها الأجهزة الأمنية، بل دستور عصري يحظى بدعم شعبي حقيقي.

 

تعني الفرصة المتاحة أمام الجزائر الابتعاد كلّيا عن ممارسات الماضي التي تقوم على تصفية الحسابات مع دول الجوار، والاعتقاد أنّ الابتزاز يمكن أن يبني سياسة خارجية. يكفي أن تتذكر المؤسسة العسكرية أن أوّل ما فعله المتظاهرون الذين انتفضوا في تشرين الأوّل – أكتوبر 1988 على نظام هواري بومدين الذي كان يمثله وقتذاك الشاذلي بن جديد، هو تحطيم مكاتب “حركات التحرير” في شارع ديدوش مراد في العاصمة. لم تكن تلك الحركات، التي على رأسها “بوليساريو”، سوى أدوات تابعة للأجهزة الجزائرية. كانت أدوات ابتزاز من مستوى رخيص ولا شيء آخر غير ذلك. المواطن الجزائري العادي يعرف ذلك قبل غيره.

 

نعم، هناك فرصة أمام الجزائر. لا عيب في الاستفادة من تجربة السودان، التي قد تنجح وقد لا تنجح، لكنّها تبقى دليلا على وجود مؤسسة عسكرية، تضمّ من دون شكّ ضباطا متهورين، لكنّها قادرة على التعاطي مع الأحداث بواقعية. مثل هذا التعاطي مع الأحداث بواقعية لا يزال ينقص المشرفين على المؤسسة العسكرية الذين يفترض بهم أن يعرفوا أن العودة إلى النظام الذي أسس له هواري بومدين صارت من رابع المستحيلات، وأن الخيار الوحيد هو الدولة المدنية ودستور عصري.