لم يبق للقيادة الفلسطينية في مركب أوسلو سوى خيارات خطيرة، فإما مغادرة هذا المركب مع كل ما في ذلك من أثمان باهظة، أو محاولة تحسين شروط البقاء في هذا المركب.
 

اتخذت القيادة الفلسطينية قرارها بشأن تحديد أو تصويب علاقاتها مع إسرائيل، إن في ما يتعلق بوقف العمل باتفاق التنسيق الأمني، أو في ما يتعلق بفك الارتباط الاقتصادي بإسرائيل، ووقف العمل باتفاق باريس الاقتصادي (ملحق اتفاق أوسلو عام 1994)، وهما الاتفاقان اللذان كبلا السلطة وجعلا من إسرائيل في واقع من الاحتلال المريح أمنيا والمربح اقتصاديا.

وفي كل الأحوال فإن أي مراجعة لاتفاق أوسلو وملحقاته الأمنية والاقتصادية، تثير الكثير من الدهشة، ليس فقط للإجحاف الكامن فيها، وإنما أيضا للكيفية التي رضيت فيها القيادة الفلسطينية بمثل هذه الاتفاقيات، وفوق هذا وذاك مراهنتها على إمكان توليد دولة فلسطينية من كل تلك القيود والتشابكات والتعقيدات، التي تجعل إسرائيل متحكمة بكل شاردة وواردة.

المهم الآن ووفقا لكل ما تقدم، فإن إسرائيل في وضع احتلال مريح ومربح، فهي لم تعد تحتكّ بالفلسطينيين وإن كانت تهيمن بشكل غير مباشر عليهم، إلا في بعض المناطق الحساسة (القدس والخليل) والمعابر وبعض التجمعات الاستيطانية، خاصة بعد أن أزاحتهم خلف الجدار الفاصل، وبعد أن أقامت ممرات أحادية عنصرية للمستوطنين ولعموم الإسرائيليين، في تنقلاتهم بين المدن الإسرائيلية ومستوطنات الضفة.

ومعنى ذلك أن إسرائيل هي التي تحررت عمليا من العبء السياسي والاقتصادي والأمني والأخلاقي، الناجم عن سيطرتها على الفلسطينيين، نتيجة قيام السلطة التي أخذت على عاتقها إدارة الوضع في الضفة وغزة، أي إدارة السكان، بأمل أن تصل في النهاية، والقصد هنا نهاية المرحلة الانتقالية (1994 ـ 1999)، إلى دولة فلسطينية، وهو ما لم يحصل بعد 26 عاما على اتفاق أوسلو، علما أن نص اتفاق أوسلو لم يذكر ولا مرة أنه سيفضي إلى دولة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، ولم يذكر ولا مرة أن تلك الأراضي محتلة، أو أن إسرائيل هي دولة احتلال، كما لم يذكر ولا مرة عدم مشروعية الاستيطان في تلك الأراضي.

عموما ليست تلك المرة الأولى التي تقوم فيها القيادة الفلسطينية بالتمرد على قيود اتفاق أوسلو، المجحف والمهين، وعلى السياسات الإسرائيلية الاستيطانية والقمعية، إذ إنها فعلتها إبان هبة النفق عام 1996. لكن التمرد الأهم تمثل في قلب الطاولة في مفاوضات كامب ديفيد 2 للعام 2000، بعد أن توضحت النوايا الخبيثة للحكومة الإسرائيلية، بقيادة أيهود باراك (زعيم حزب العمل آنذاك) الذي أخذ على عاتقه دفن اتفاق أوسلو، عبر التملص من استحقاقات المرحلة الانتقالية، والتحول نحو فرض إملاءات إسرائيل في قضايا الحل النهائي (القدس، اللاجئون، المستوطنات، الحدود، الترتيبات الأمنية، العلاقة مع الجيران)، ما كانت نتيجته تمرد الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات على أوسلو، والتوجه نحو الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004)، وبقية القصة التراجيدية معروفة، سواء للرجل أو للفلسطينيين عموما.

الآن، ومنذ مجيء محمود عباس إلى رئاسة السلطة وسدة القيادة، وبعد يأسه من محاولات التفاوض لإنعاش اتفاق أوسلو، وفق اتفاق أنا بوليس عام 2007، وجد بنيامين نتنياهو أمامه، كرئيس لحكومة إسرائيل منذ 2009، وكزعيم لحزب الليكود، وهو صاحب فكرتي “الأمن أولاً” و”السلام الاقتصادي”، وقد تفاقم الأمر مع وجود رجل على شاكلة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، المؤيد لإسرائيل بلا تحفظ، الأمر الذي أطاح باتفاق أوسلو من أساسه، كما أطاح بكل فكرة التسوية القائمة على ركيزة إنشاء دولة فلسطينية في الضفة والقطاع.

الفكرة الآن أن القيادة الفلسطينية باتت وظهرها إلى الحائط، أو لم يتبق لها ما تفعله في هذه الظروف العربية والدولية، مع الاحترام لأكثر من مئة دولة اعترفت بفلسطين كدولة- عضو مراقب في الأمم المتحدة، إذ تواصل إسرائيل قضم مناطق الضفة وتعزيز الاستيطان، وتشتغل بدأب على تهويد القدس وترسيخ هيمنتها على الفلسطينيين، فيما تواصل الإدارة الأميركية دعمها لها بمحاولاتها تصفية قضية اللاجئين، وزعزعة مكانة منظمة التحرير، وتوفير الأرضية الإقليمية لتطبيع وشرعنة وجودها في الشرق الأوسط.

لم يبق للقيادة الفلسطينية في مركب أوسلو سوى خيارات خطيرة ونهائية، فإما مغادرة هذا المركب مع كل ما في ذلك من عواقب وتبعات وتحديات وأثمان باهظة، أو محاولة التكيف أو تحسين شروط البقاء في هذا المركب مع الأثمان والتداعيات المترتبة على ذلك إزاء شعبها، وإزاء قضيتها. علما أن لدى إسرائيل خيارات أخرى بديلة، ضمنها فرض إملاءاتها، والسير في التسوية الإقليمية، وتطبيع علاقاتها مع هذه الدولة أو تلك في العالم العربي.

مع ذلك ثمة لشعب فلسطين خيارات أخرى، أثبتها الفلسطينيون عبر تاريخهم وهي أنهم سيواصلون حياتهم ويعززون صمودهم وسيستمرون بكفاحهم من أجل حقوقهم الوطنية، فقصة الشعب غير قصة القيادة، أي أن خياراتهم مفتوحة مهما كان الأمر.