إنه بحث عن الهوية في بلد يعيش على أوهام تاريخ مضى. ومثل كل باحث عن هوية ضائعة، يتمسك الشخص، أو البلد في هذه الحالة، بمن يوفر له هوية جديدة تشعره بالاطمئنان إلى مستقبله.
بريطانيا الآن هي في خضم هذا البحث. تخوض معركة الطلاق الصعبة مع شريك أوروبي تعايشت معه على مضض لأكثر من 45 سنة. وتحاول مد اليد إلى حليف أميركي طالما اعتبرته صديقها الأبدي و«شريكها المميَّز».

 


المخاوف من الضياع تطغى على هذه المرحلة؛ إذ تسلّم بريطانيا قيادتها لمعسكر يميني بالغ التطرف في مواقفه الشعبوية التي تصل إلى حدود العنصرية، تجاه الهويات والأعراق الأخرى. ليست هذه بريطانيا التي يعرفها من عاش مثلي في هذا البلد منذ أربعة عقود. لا حكم مارغريت ثاتشر كان هكذا، ولا الحكومات التي قادها «العمالي» توني بلير. الأولى خاضت صراعات داخلية وحروباً خارجية؛ مع الأرجنتين، حول جزر «الفوكلاند»، التي بالكاد تمكن رؤيتها على خريطة النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، ومع مقاتلي «الجيش الجمهوري الآيرلندي»، الذين دفعت ثاتشر بعضهم إلى الموت جوعاً في سجونهم، ومع قادة النقابات، الذين نجحت تلك «السيدة الحديدية» في تفكيك سطوتهم على الحركة العمالية. أما توني بلير، فكانت إصلاحاته العميقة داخل حزب العمال ثم مشاركته في حرب العراق إلى جانب جورج بوش الابن، دافعاً إلى معارضة بريطانية واسعة بقيت آثارها عالقة على ذكريات حكمه إلى اليوم.

 


كل تلك الأحداث لم تشكل تهديداً لهوية بريطانيا ولوحدتها السياسية، كما يفعل «بريكست». ولا كانت صورة زعامة هذا البلد العريق على الشكل الهزيل الذي هي عليه الآن. هذه بلاد حكمها ونستون تشرشل وكليمنت أتلي، وأطلقت ثورة صناعية كانت محرك الانتقال الأوروبي والعالمي من عصر إلى عصر. انتهى قرارها الآن في يد رئيس حكومة من وزن بوريس جونسون الذي قامت حملته ضد أوروبا على خطاب شعبوي، تضمّن كثيراً من الوعود المستحيلة والأوهام الخادعة والاتهامات غير الصحيحة بشأن سلبيات عضوية بريطانيا للاتحاد الأوروبي. إغراءات حملت الناخبين على التصويت مع الطلاق، من دون حساب للعواقب الخطيرة، التي يقول كل الخبراء الاقتصاديين، بمن فيهم حاكم بنك إنجلترا المركزي، إنها ستكون كارثية على بريطانيا. خسائر اقتصادية تصل تقديراتها إلى 150 مليار دولار، إضافة إلى فقدان عشرات آلاف الوظائف.
معركة الخروج من الاتحاد الأوروبي حصدت رئيسين للوزراء قبل وصولها إلى يد بوريس جونسون: ديفيد كاميرون الذي كان وراء الاستفتاء على عضوية الاتحاد، واستقال بعدما خسر الرهان على البقاء، ثم تيريزا ماي التي فاوضت الاتحاد الأوروبي على اتفاق ينظّم عملية الخروج، لكنها فشلت في كسب ثقة البرلمان، فاضطرت هي أيضاً للاستقالة.

 


أربعة من رؤساء بريطانيا السابقين (جون ميجر، وتوني بلير، وغوردن براون، وديفيد كاميرون) يقفون ضد مغامرة الخروج من الاتحاد الأوروبي، ويحذرون من المخاطر على أمن بريطانيا ومستقبل اقتصادها. والآن يواجه بوريس جونسون تحدي تنفيذ التزامه بإخراج بريطانيا من الاتحاد، باتفاق أو من دون اتفاق و«مهما كلَّف الأمر»، كما قال. لكن أمام هذا التحدي عوائق كثيرة بدأ رئيس الوزراء الجديد يكتشفها منذ الأسبوع الأول لتوليه السلطة. أهم العوائق تأثير هذا القرار على وحدة الكيان البريطاني، وما يمكن أن يعقبه من احتمال انفصال اسكوتلندا عن المملكة المتحدة، بعدما صوتت أكثرية أبنائها ضد الخروج من الاتحاد الأوروبي. إضافة إلى مأزق الحدود بين آيرلندا الشمالية (وهي جزء من المملكة المتحدة) وجمهورية آيرلندا، العضو في الاتحاد الأوروبي. هذه الحدود ستصبح آخر معبر بري بين بريطانيا والاتحاد بعد خروجها منه، ما يفترض رقابة على البضائع التي تعبره، وهو أمر صعب التحقيق بسبب الاتفاق الذي قام بين أطراف الأزمة الداخلية في آيرلندا الشمالية، وأنهى الحرب الأهلية التي كانت دائرة في تلك المقاطعة قبل عشرين سنة، وبموجبه أصبحت الحدود مفتوحة على الجانبين.

 


النزاع الداخلي الدائر الآن في بريطانيا بين المعسكرين: مَن يريدون البقاء في الاتحاد الأوروبي، ومَن يؤيدون الانفصال، يمكن وصفه بأنه حرب بريطانيا مع نفسها. ولولا أن صفة الحروب الأهلية تفترض مواجهات مسلحة بين أبناء البلد الواحد، لأمكن إطلاق هذه الصفة على الانشقاق العميق الحاصل اليوم في المجتمع البريطاني حول القرار الذي اتخذه الناخبون في غفلة تاريخية، في ذلك اليوم الصيفي قبل ثلاث سنوات. قرار ما زال البريطانيون يحاولون معالجة ذيوله إلى اليوم.

 


من أهم تلك الذيول صعوبة الخروج من العقد الذي يربط بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، ومن قبله بالسوق الأوروبية المشتركة منذ 46 سنة. عقد سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي جعل العلاقات البريطانية - الأوروبية أعمق مما كانت عليه في أي وقت، والاتصال بين الطرفين أكثر سلاسة، خصوصاً بعدما خرجت الجزر البريطانية من عزلتها الجغرافية، وانفتحت على الجزء الآخر من بحر المانش، أو القنال الإنجليزي، كما يسميه البريطانيون، بفضل خط القطار الذي صار يربط مباشرة لندن وباريس.

 


لم تكن العلاقات البريطانية - الأوروبية التي تزداد وثوقاً مصدر ارتياح للجميع على الجانب الأنغلوساكسوني من القارة المطل عبر المحيط الأطلسي على الشاطئ الأميركي. وليس من قبيل الصدفة أن يطلق البريطانيون اسم «البحيرة» (The pond) على هذا المحيط، في إشارة تحمل رمزية نفسية أكثر من التعبير اللغوي، تشير إلى الحنين إلى ثقافة وتاريخ مشترك يعود إلى الزمن الذي كانت فيه الأراضي الأميركية جزءاً من أملاك التاج البريطاني.
تجربة بوريس جونسون في رئاسة حكومة بريطانيا ستكون فرصة لتكتشف هذه البلاد هويتها من جديد؛ هل ستسير وراء هذه النزعة الانفصالية التي أخذت تنظر إلى الأوروبيين، أقرب الجيران، على أنهم أعداء، وترفع شعار بريطانيا المنفتحة على التجارة مع العالم، خارج الحدود الأوروبية «Global Britain»؟ أم تعيد النظر في الخسائر وتسمع الأصوات العاقلة، التي تحذر من هذا الانحدار إلى مصير غير محسوب العواقب؟