أخذ العناد العراق إلى كارثة. يمكن للعناد أن يأخذ إيران إلى كارثة أخرى، اللهم إلا إذا وجد في طهران عاقل يستوعب أن الحرب الأميركية حرب حقيقية لا تواجه بالقرصنة ولا بالملف النووي.
 

تمرّ الذكرى وكأنّ الحدث كان في الأمس القريب وليس قبل تسعة وعشرين عاما. وقتذاك، قبل نحو ثلاثة عقود، قام صدّام حسين بمغامرته المجنونة التي تمثلت باحتلال الكويت. كان ذلك في الثاني من آب-أغسطس من العام 1990. لا تزال المنطقة كلّها، بما في ذلك المواطن العراقي، تدفع ثمن هذه المغامرة التي عكست سوء فهم وغباء قلّ نظيرهما للمعادلات الدولية والإقليمية والتوازنات التي كانت تتحكّم بالعالم.

حاول الرئيس العراقي الراحل، الذي لم يستوعب الأسباب الحقيقية التي جعلت العراق يحقّق شبه انتصار على إيران في حرب 1980- 1988، اللعب على التناقضات الدولية التي لم تعد موجودة. كان يظنّ أن الاتحاد السوفييتي ما زال موجودا وأن في استطاعته الرهان عليه في إيجاد نوع من التوازن مع الولايات المتحدة.

أكثر من ذلك، كان يعتقد أنّه سيفاوض الولايات المتحدة من موقع قوّة بمجرّد أن نفط الكويت صار تحت تصرّفه وأنّه سيكون في استطاعته التحكّم بأسعار الذهب الأسود. لم يدرك أن ليس هناك من يريد التفاوض معه من هذا المنطلق وأنّه وقّع في ذلك اليوم قرارا لا يقضي بتنفيذ حكم الإعدام في حقّ شخصه فحسب، بل في حقّ العراق أيضا.

إلى الآن، ليس مفهوما كيف يمكن لرجل يمتلك حدّا أدنى من الخبرة السياسية الإقدام على ما أقدم عليه صدام حسين الذي كان جاهلا حتّى بالكويت وطبيعة الكويت والمجتمع الكويتي، حيث لم يجد شخصا واحدا يقف معه.

ما يمكن فهمه هو الموقف الحازم الذي اتخّذه أمير الكويت وقتذاك الشيخ جابر الأحمد وولي العهد الشيخ سعد العبدالله والأمير الحالي الشيخ صباح الأحمد، الذي كان وزيرا للخارجية، من أجل إنقاذ الكويت بغض النظر عن الثمن الذي يتوجب دفعه.

فوق ذلك كلّه، غاب عن صدّام حسين أي فهم للمملكة العربية السعودية وللموقف الذي كان الملك فهد بن عبدالعزيز على استعداد لاعتماده من أجل وضع حدّ لطموحات رجل لا يعرف شيئا عن العالم وكيفية تسير الأمور فيه، خصوصا في ما يخصّ الولايات المتحدة وكواليس واشنطن.

ضاع العراق بسبب حسابات خاطئة لشخص آمن بصهره الأمّي بكلّ معنى الكلمة واسمه حسين كامل. ما لبث حسين كامل أن انقلب عليه كاشفا أن النظام الحاكم في العراق لم يكن، في أحسن الأحوال سوى مهزلة…

بعد مرور كلّ هذه السنوات، يصحّ التساؤل هل انتهى العراق يوم سقوط النظام الملكي في الرابع عشر من تمّوز–يوليو 1958، أم يوم الثاني من آب–أغسطس 1990 يوم دخلت الدبابات العراقية إلى الكويت؟ قد يكون الجواب إن العراق سقط على مراحل وصولا إلى القرار الغبيّ الآخر الذي اتخذه جورج بوش الابن والقاضي باجتياح البلد في 2003.

يظلّ العجز عن استيعاب ما يدور في المنطقة والعالم السمة الأبرز في تصرفات العراق في عهد صدّام حسين بين 1979 و2003، وهي سمة أخذته إلى حرب مع إيران، كانت “الجمهورية الإسلامية” تبحث عنها… ثمّ إلى المغامرة الكويتية التي قادت إلى السقوط النهائي للعراق في 2003 مع ما يعنيه ذلك من خلل في التوازن الإقليمي لمصلحة إيران.

كانت إيران، في كلّ الوقت المستفيد الأوّل من صدّام حسين. المشكلة الآن أنّها لم تتعلّم من التجارب التي مرّ فيها العراق في عهده. صحيح أن “الجمهورية الإسلامية” تبدو ظاهرا أكثر دهاء من الرئيس العراقي الراحل الذي دفع في 2003 ثمن ما ارتكبه في 1990، لكنّ الصحيح أيضا أن ثمّة قاسما مشتركا بين الجانبين. تختزل هذا القاسم المشترك الرغبة في لعب دور على الصعيد الإقليمي في عالم لا مكان فيه لمثل هذه الأدوار.

تجاهل صدّام حسين في 1980 أنه ليس قوّة إقليمية تمتلك ما يكفي من الإمكانات العسكرية والاقتصادية والبشرية لخوض تجربة الحرب مع إيران والتهديد بتقسيمها. وهذا تهديد ورد على لسان أحد كبار المسؤولين العراقيين وقتذاك في تصريح إلى “واشنطن بوست”.

تجاهل في 1990 أنّه لا يحق للعراق الاستيلاء على دولة سيّدة تمتلك ثروات كبيرة اسمها الكويت. لم يدرك صدّام يوما أنّ أميركا لن تدخل في مفاوضات معه وهو لا يزال في الكويت. كانت الشروط الأميركية واضحة. في المقابل، لم يكن يمتلك في مواجهة هذه الشروط غير العناد. إلى أين أوصله العناد؟ منذ متى كان العناد سياسة؟

تتجاهل إيران حاليا أنّه ليس مسموحا لها تعطيل الملاحة في الخليج ولعب دور القرصان. يكفي في النهاية التفكير في أنّ مثل هذه الأدوار غير مقبولة وذلك على الرغم من كل التناقضات القائمة حاليا بين الولايات المتحدة من جهة وكل من الصين وروسيا من جهة أخرى. لو كان في استطاعة إيران الاعتماد على الصين لما كان استيراد البلد الأكثر سكّانا في العالم من النفط الإيراني تقلّص إلى  الحدّ الذي تقلّص إليه.

لا شكّ أن جزءا من اللعبة الإيرانية يعتمد على الميليشيات المذهبية التي تعمل في سوريا والعراق ولبنان واليمن. لا شكّ أنّها تمتلك ما يكفي من الدهاء لتحويل هذه الميليشيات أدوات تعمل لمصلحتها، وهذا ما لا يكن متوفّرا لدى صدّام حسين الذي لم يعرف يوما أن هناك لونا يقع بين الأسود والأبيض هو اللون الرمادي.

لكنّ التصرفات الإيرانية توحي بأنّ نظام الملالي وقع ضحية لعبة التذاكي التي مارسها طويلا. حالت هذه اللعبة دون جعله يدرك أنّ العالم تغيّر، بما في ذلك لعبة التحكّم بأسعار النفط. لعلّ أغرب ما حصل منذ باشرت إيران اعتراض ناقلات في الخليج أو الاعتداء عليها، كما حصل قبالة ميناء الفجيرة الإماراتي، أن سعر النفط لم يتأثّر إلّا ضمن حدود معيّنة.

ليس ما يدلّ على مدى فعالية العقوبات الأميركية على إيران أكثر من اضطرارها إلى استخدام “الحرس الثوري” مباشرة في مضايقة الملاحة في الخليج وعبر مضيق هرمز. انتهت إلى التصرّف بالطريقة الفجّة التي كان يتصرّف بها صدّام حسين. من الواضح أنّها لا تريد الاستفادة من تجارب الآخرين ومن أن العناد ليس سياسة وأن القرصنة تنتمي إلى الماضي البعيد وليس إلى القرن الحادي والعشرين…

أخذ العناد العراق إلى كارثة. يمكن للعناد أن يأخذ إيران إلى كارثة أخرى، اللهمّ إلّا إذا وجد في طهران عاقل يستوعب أنّ الحرب الأميركية، التي في أساسها العقوبات الاقتصادية، حرب حقيقية لا تواجه بالقرصنة ولا بالملفّ النووي الذي كان يستهوي باراك أوباما والأوروبيين… لكنّه يبدو أنّه لا يهمّ دونالد ترامب وفريقه…