لبنان بلد مأزوم حتى آخر مفصل فيه؛ تكفي جولة بسيطة في الشارع، لتقرأ الأزمة بكل تعابيرها المتعبة على وجوه الناس، ولن تجد بينهم من يبتسم. هذه هي الصورة كما يراها ويعيشها كل اللبنانيين، في بلد تمضي فيه الأمور في إطار «التسيير الذاتي»، في اتجاه منحدر، يُنذر بسقوط إلى قعر الهاوية، سواء على المستوى الاقتصادي، وعلى وقع التحذيرات اليومية من اقتراب كابوس الانهيار، أو على المستوى السياسي، الذي تبدو فيه الطبقة الحاكمة عاجزة عن حل معضلة أمنية - قضائية كتلك التي أفرزتها حادثة قبرشمون.
 

مشكلة اللبنانيين الكبرى، تكمن في انّ من يتربّع على عرش السلطة والقرار، يرون هذه الأزمة المفتعلة ويصبّون الزيت على نارها، كما هو حاصل حالياً، والأسوأ من ذلك أنّ هؤلاء المتربعين يعانون قُصر النظر ولا يصل نظرهم إلى ما خلف الحدود ليعرفوا كيف يُنظر إلى لبنان من هناك، وأين موقعه في أجندة الاهتمامات والأولويات!

هذه عينة من كلام جرى تداوله في أحد الصالونات الدبلوماسية، كان فيه «الكلام الدبلوماسي» في منتهى الصراحة: «انّ لبنان فقد او يكاد يفقد عناصر امانه الداخلي، ويُضاف ذلك الى فقدانه خلال السنوات الاخيرة، الكثير من مقوّمات العلاقة مع الخارج. فالاندفاعة الخارجية لم تعد كما كانت في السابق، بل هناك فتور واضح فيها، صحيح أنّ الخارج لم يوفّر لبنان بزيارات مسؤوليه، المتعددي الجنسيات والمستويات، إلا أنّها زيارات تبدو اهدافها موضعية، ضمن إطار أهداف محدّدة، نفطية كانت أم اقتصادية، ولا ترقى إلى مستوى الاهتمام بهذا البلد وشؤونه، هذا ليس اعترافاً، انما هذه هي الحقيقة».

ولكن هذا الاعتراف، لم يمنع من السؤال: لماذا لا يهبّ الخارج الذي يقول انه صديق للبنان، لاحتواء الموقف فيه قبل انفجاره؟ أهو يأس؟ أم سياسة مقصودة تحت عنوان «دعوا لبنان ينفجر»؟

ينطلق «الكلام الدبلوماسي» في الإجابة عن هذا السؤال، من واقع أنّ لبنان لم يعد يحتل موقعاً متقدماً، أقلّه في الوقت الراهن، في الصراع الدولي والإقليمي، كما كانت الحال، يوم اختير في أوقات ماضية، نقطة لصراع بالوكالة بين الولايات المتحدة وخصومها «المارقين». وبالتالي، لا يبدو أنّ لبنان يشكّل اليوم بالنسبة إلى الخارج أكثر من صداع في الرأس، يمكن تجاوزه مرحلياً ببعض المهدئات، في انتظار أن يأتي الدور عليه في الصراعات الكبرى، ولا مشكلة بالتالي بمقاربته وفق معالجات وعلاجات موضعية.. أقلّه في الوقت الراهن.

وأما في تفصيل النظرة الخارجية إلى لبنان، فيورد الكلام الدبلوماسي ما يأتي:

لنبدأ بالولايات المتحدة الاميركية، فيمكن تحديد ما تريده من لبنان بنقطتين أساسيتين:
الأولى، تصعيد الضغط على «حزب الله» من خلال العقوبات التي طالت معظم قياداته وكياناته، وذلك ضمن إطار التوجّهات العامة لسياسة دونالد ترامب، التي بات الاقتصاد بديلاً فيها من العسكرة.

الثاني، محاصرة لبنان بجملةٍ من الاعتراضات والإملاءات، ما يجعل البلدَ مقيّداً في السياسة والاقتصاد والأمن وحتى العتاد العسكري. وأما التحرّكات المكوكية للمسؤولين الأميركيين، على غرار ديفيد ساترفيلد ومن سيليه، والتي تدور في معظمها حول ملف محدد، هو ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، فليست سوى تفصيل ضمن استراتيجية أوسع، تسعى إلى تحييد الصداع اللبناني عن التوجهات العامة المتصلة بقطع الطريق على روسيا لوقف احتكارها لصادرات الغاز الى أوروبا، عبر انشاء منصة شرق متوسطية بديلة.

أما بالنسبة إلى اوروبا، لبنان بالنسبة اليها لا يعدو اكثر من ذكرى من الماضي، أولوياتها دولها وما تعانيه من انحدارات على مستويات عديدة، في مقدّمها الاقتصاد المهزوز فيها. وإذا شئنا ان نستذكر فرنسا، فأزماتها الداخلية فرضت عليها اعادة توجيه خريطة أولوياتها إلى الداخل، وهي وان كانت قد رعت «سيدر»، فلا هي قادرة على دفعه نحو تحقيق عناوينه، ولا اللبنانيون ساعدوها على ذلك، وبالتالي اقصى ما يمكن ان يجني منها لبنان، هو دعم معنوي من بعيد لا اكثر.

اما ما يتعلق بروسيا، فأولوياتها تقتصر على الميدان السوري، باعتباره نقطة الارتكاز في حضورها الجيوسياسي وحلمها الدائم بالمياه الدافئة. ولعلّها تدرك جيّداً أنّ الدخول في صراع على لبنان، مع الأميركيين او غيرهم، هو استنزاف للطاقات ومضيعة للوقت. حتى في جانب التعاون الاقتصادي والعسكري، لا تبدو روسيا مهتمة بهذا البلد، الذي لخّص أحد الاقتصاديين الروس مرّة التبادل التجاري مع لبنان، بالقول إنّ «كل ما ينتجه لبنان من نبيذ لا يكفي استهلاك حي واحد في موسكو»... واذا ما أراد المرء أن يستنسخ هذه العبارة في شقها التسليحي، لقال إنّ ميزانية الصناعات العسكرية الروسية لن تجني من مبيعات الأسلحة إلى لبنان خلال سنوات أكثر من واحد في الألف من قيمة بطارية واحدة من منظومة «أس-400» بيعت لتركيا أو الهند.

حتى الصين نفسها، العملاق الاقتصادي الراغب في فتح أسواق في كل مكان، وخلافاً لطموحات التجار ورجال الأعمال اللبنانيين، لن تضيّع وقتها في بلد تبدو فيه الجدوى الاقتصادية صفرا، مقارنة بدول أخرى، فما الحال في ظل وجود «فيتوات» أميركية، لم تعد خافية على أحد، بشأن أي تعاون لبناني - صيني محتمل في المجال الاقتصادي، خصوصاً في ظل الحرب التجارية الدائرة بين واشنطن وبكين؟

أما القوى الإقليمية، وبصرف النظر عن أي تفسير مبالغ فيه لـ«صبيانيات» السياسة اللبنانية، فإنّها لا تبدو في الوقت الراهن راغبة في نقل صراعاتها بشكل مباشر إلى لبنان، كما كانت الحال قبل سنوات.

فمن جهة، تدرك إيران أنّ أية مواجهة مع الولايات المتحدة، أو حتى السعودية، على الأرض اللبنانية ستكون مكلفة، سواء من الناحية المالية، في وقت تتعرض فيه لعقوبات متصاعدة، هي و»حزب الله» من الولايات المتحدة، أو من الناحية العسكرية في حال تدحرج التوتر إلى حرب مع إسرائيل. من هنا فإن ايران تفضّل أن يكون ميدان مواجهتها هو اليمن، خصوصاً بعدما ألحقت الهجمات بالطائرات من دون طيار التي يشنها الحوثيون على المنشآت النفطية والجوية ضربات موجعة للخليجيين.

وتبقى السعودية، التي تبدو وكأنها تعيد صياغة علاقتها مع لبنان، بالاستفادة من الكثير من الاشكالات ومحطات سوء التفاهم التي حصلت في السنوات الاخيرة، وهنا تبدو اولويتها مركزة على محاولة اعادة ترميم «حضورها اللبناني»، بما يتناسب مع خريطة طريق صاغتها لنفسها، تعيد من خلالها ضبط خريطة تحالفاتها وخصوماتها السياسية في لبنان بشكل عام، إضافة إلى ضبط كل الاوراق في الساحة السنّية بشكل خاص، وليست منعزلة عن هذا التوجّه، الزيارة الأخيرة لرؤساء الحكومات السابقين إلى المملكة، ولقاؤهم الملك سلمان بن عبد العزيز.

خلاصة « الكلام الدبلوماسي» هو انّ السلوك الخارجي تجاه لبنان متأرجح بين التجاهل والترقّب. في المنطق العام، كان ينبغي للبنانيين الاستفادة من ظرف كهذا لترتيب البيت الداخلي سياسياً واقتصادياً بعيداً من تدخلات الخارج، لكن العبث الوطني يبقى سيّد الموقف، والصبيانيات السياسية باعدت عن لبنان حتى الطرف الدولي الوحيد الذي يمكن أن يساعد على الاستقرار، والمقصود به الأوروبيون، الذين يبدون يوماً بعد يوم تشاؤمهم من امكان دخول لبنان الى مرحلة العقل، والشروع في اصلاحات انقاذية بات هذا البلد في امسّ الحاجة اليها.