هناك حرب باردة طائفية ومذهبية بلغت ذروتها. وعلى اللبنانيين أن يشكروا أولاً القوى الدولية الحريصة على عدم سقوط لبنان، وثانياً الجيش اللبناني في يوم عيده. فهو ومصرف لبنان الضمانة الوحيدة الباقية لما بقي من دولة. ومن حظّ اللبنانيين أن المؤسستين تحظيان بالغطاء الدولي، ولاسيما الجيش... وإلاّ فليس مؤكداً أن الحرب الباردة كانت ستبقى باردة!
 

هناك شيءٌ ما في الأجواء. هذه المرَّة، ليس الخلاف على التفاصيل، إنه يمسّ جوهر الصيغة والميثاق. وهذا المناخ يوحي أنه ذاهب إلى تصعيد في الأسابيع والأشهر المقبلة. وهكذا، يمكن انتظار خريف عاصفٍ بعد صيف ساخن، فيما يجتاز البلد أكثر الظروف حساسية، بل مصيرية، اقتصادياً ومالياً ونقدياً. وباتت عُدَّة التصعيد مكتملة:

1- رسالة رئيس الجمهورية إلى المجلس النيابي حول تفسير المادة 95 لا تبدو عادية. فالرئيس ميشال عون «لم يَبْلَعْ» تمرير المادة 80 في الموازنة «مِن وراء ظهره». لكن صلاحياته الدستورية وفق الطائف تفرض عليه توقيع قانون الموازنة، ولو عن غير اقتناع. لذلك، ارتأى التوقيع على مضض، ثم فتح معركة حول مفهوم المناصفة والوفاق الوطني. وتوحي ملامح المعركة وظروفها بأنّها ستكون شرسة، وستستغرق وقتاً طويلاً.
رسالة عون حملت تحذيراً له مغزاه: «الميثاق والوفاق الوطني والعيش المشترك هي مرتكزات كيانية لوجود لبنان وتسمو كل اعتبار». كما لوّحت الرسالة بإجراءات معيّنة لاحقاً: «نحتفظ بحقنا وواجبنا الدستوريين، من موقعنا ودورنا وقسمنا، باتخاذ التدبير الذي نراه متوافقاً والدستور في هذه المسائل».

2- في السياق نفسه، أطلق الوزير جبران باسيل وعدد من أركان «التيار الوطني الحرّ»، في الأيام الأخيرة، كلاماً لم يسمعه أحد منذ الطائف حتى اليوم: «يهدّدوننا بالعودة إلى العدّ. المسيحيون ليسوا خائفين من ذلك. هذا لبنان. نتيجة العدّ مفهومة، ونحن ندرك إلى أين سنصل. لكن شيئاً لا يجوز أن يغيِّر مفهومنا للمناصفة. فإذا أرادوا سوى ذلك، فنحن لدينا خياراتنا أيضاً، وكلها وطنية وتحافظ على البلد». والجميع يريدون الاستيضاح: ما هي خيارات «التيار»؟

3- في التوقيت الحسّاس، نُشرت إحصائية «تُفَهِّم المسيحيين قيمة أنفسهم»: أنتم 30 % فقط من اللبنانيين. كفاكم مطالبة بالمناصفة في الوظائف وتوسّعاً في الصلاحيات هنا وهناك.

4- هناك «نقزة» سنّية من المسّ باتفاق الطائف، يُعبِّر عنها حراك رؤساء الحكومة السابقين الذين زاروا السعودية، راعية الاتفاق. وعلى الأرجح، ستصبح المواجهة سنّية شاملة دفاعاً عن الطائف.
وثمة كلام بدأ يتردَّد حديثاً في بعض الأوساط، استناداً إلى اتصالات خارجية جرت أخيراً مع بعض القوى المؤثرة، ومفاده أن لا ضير في تغيير الرئيس سعد الحريري إذا صارت كلفة استمراره على رئاسة الحكومة وصلاحياتها أكبر من كلفة بقائه ضمن التسوية التي لا يستطيع الخروج منها. فالمكاسب التي تمّ تحقيقها في الطائف ليس مقبولاً التفريط بها والعودة إلى الوراء.

5- تزامناً، هناك مظاهر ذات طابع طائفي مباشر أو غير مباشر فرضت نفسها أخيراً، ومنها: قرار بلدية الحدت وقف تأجير المساكن أو بيعها لغير المسيحيين، والانقسام حول قرار وزارة العمل المتعلق بتنظيم عمالة الفلسطينيين. وهو اتخذ طابعاً طائفياً.

 
 

6- في ظل هذا الغليان الطائفي، بلغ استنفار العصبيات حدوداً غير مسبوقة بين الناس العاديين، في الطوائف كافة. واللافت هو الطريقة التي تمَّ فيها التعامل، داخل البيئة المسيحية، مع حفلة غنائية ضمن مهرجانات جبيل.

وإذا كان شائعاً أن تقوم جماعاتٌ مسلمة متحفّظة أو متشدِّدة بتهديد فنان يتعرَّض لرموزها الدينية، فإنّ أي فنان لم يتعرَّض في لبنان لتهديدٍ من مسيحيين «بإراقة الدماء» بسبب أعمالٍ له - لن تُقَدَّم في الحفلة - ومصنَّفة بأنها تمسُّ الرموز الدينية المسيحية.

وهذه الظاهرة، وإن لم تكن مرتبطة مباشرة بالصراع السياسي، فمن الممكن وضعها في سياق «التصاعد الصاروخي» للمناخ الطائفي في الفترة الأخيرة. وفي لحظات معينة، يصبح صعباً الفرز بين عصبيات الانتماء الطائفي وحماسة الانتماء الديني.

إذاً، كلُّ عدّة التوتُّر الطائفي موجودة. وسيتبيّن أنّ قصة الـ400 موظف المقبولين في مجلس الخدمة المدنية هي النقطة التي فاض بها الكوب الطائفي.
لذلك، أراد الرئيس نبيه بري أن يكسب الوقت لعلّه يكون «حلّال المشاكل». وإيداع رسالة عون في أدراج المجلس حتى الثلثاء الأول بعد 15 تشرين الأول قد يؤدي إلى تبريد الخزّان، على أمل ألاّ ينفجر!

لكن الأرجح أنّ عون «لن ينام» وينتظر الوقت. هو سيحاذر بلوغ البلد حافة الصدام الطائفي، لكنه لن يستكين. إنه ناقم على الطائف والذين صنعوه واستخدموه لإزاحته عن السلطة قبل 30 عاماً. وهو ناقم على الذين رعوا تنفيذ الطائف... كما رعوا عدم تنفيذه أو تنفيذه وفقاً لمصالحهم، فيما كان هو في المنفى.

وإذ اضطر عون حديثاً إلى ركوب قطار الطائف، لأنّه الوحيد الذي يوصل إلى السلطة، فهو لم ينسَ يوماً أن بينه وبين الاتفاق ثأراً سيأتي أوانه. وباتت الصورة واضحة:
- المسيحي «يشدُّ» لتحسين وضعِه واستعادة شيء مما كان قبل الطائف.
- السُنّي يخاف على الطائف ومكاسبِه ويستنفر من بيروت إلى الرياض والقاهرة.
ـ الشيعي «يُرَوِّق اللعبة» قدْر المستطاع ويراقب. ومن عاداته أنه يستفيد من اللاعبين جميعاً.
في هذا الخضم، وفيما الشرق الأوسط كله يهتزّ، أي فرصةٍ ممكنة لإحداث تغيير في نظام الطائف؟ مَن سيدير هذا التغيير ولمصلحة مَن سيكون؟ وأين يقف أصحاب المؤتمر التأسيسي من كل ما يجري؟.