«إقطع رأس الأفعى بيد عدوك فإن لم ينقطع، يضعفان وتنتصر أنت» (سعدي الشيرازي) «من كان يحيا بمحاربة عدو ما له مصلحة بإبقائه حياً» (فريدريك نيتشه)
 

في أيام الاحتلال البريطاني لمصر، كان بعض العمال المصريين يعملون في تفريغ وتحميل بعض المؤن من وإلى الشاحنات العسكرية. وكالعادة، فإنّ روح النكتة المصرية كانت دائماً حاضرة، وفي معظم الأحيان كانت تشتمل على شتائم للإنكليز. أحد الوشاة، وكانوا كثراً، ذهب الى الضابط البريطاني ليخبره بفظاعة الشتائم التي تطاله وتطال دولته، مؤكداً له وجوب معاقبة هؤلاء حتى يكونوا عبرة لمَن اعتبر. 

الضابط العتيق أجاب: «دعهم يشتمون، المهم أن يستمروا بنقل الحمولة، إن عاقبتُ بعضهم فقد نخسر يداً عاملة، وقد يتذمر البعض ويحتج وتخف إنتاجيته، فلا بأس إذاً إن فرغوا كرههم لنا بالشتائم!».

لا يختلف اثنان على أنّ اتقان فنون الاستعمار واستغلال الشعوب كان من تجليات الإمبراطورية البريطانية، ومن المعروف اليوم أنه حتى بعد ضمور دور بريطانيا العسكري والاقتصادي والسياسي في النصف الثاني من القرن العشرين، إلّا أنّ مراكز التفكير بقيت فاعلة فيها، ويعتقد الكثير من المفكرين السياسيين أنّ سياسات الولايات المتحدة الأميركية العالمية تنضج بالتعاون مع الانتليجنسيا البريطانية. 

من ضمن هذه السياسات أن تسهّل لخصمك فرصة شتمك، لكن في الوقت نفسه تتركه لينفّذ ما تريده أنت، من موقع العداوة معك، وهو يظن أنه ينفّذ ما يريده هو لينتقم منك! 

بالتأكيد لم تأتِ هذه السياسة فجأة ومن دون المرور بفترات تجربة مُرة أدّت إلى خسائر كبيرة، تسببت بها المواجهات المباشرة في كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق. كما أنّ التجارب المُرة كانت أيضاً في دعم الولايات المتحدة أنظمة قمع فاشية وفاسدة، مثلما حصل في أميركا اللاتينية وآسيا والشرق الأوسط وأفريقيا. 

في المواجهات المباشرة، دفعت الولايات المتحدة الأميركية عشرات الآلاف من القتلى، مع السمعة السيئة والاتهامات الصحيحة باستهداف المدنيين، أو على الأقل بعدم ضمان أمنهم حسب المعايير المتوافق عليها في شرعة حقوق الإنسان لدرجة تصل إلى جرائم الحرب. وفي الحالة الثانية حصدت الإدارات الأميركية السمعة السيئة التي يمكن تلخيصها بالنفاق، عندما تحدثت عن معايير الحرية الديموقراطية ودعمت الظلم والفساد والديكتاتورية.

أحد وجوه الدعم لأنظمة فاسدة وسلطوية كان أيام الشاه محمد رضا بهلوي، الذي ورث الإمبراطورية الفارسية بانقلاب على والده رضا بهلوي في سنة ١٩٤١ بدعم من الحلفاء، الذين أرادوا قطع الطريق على تعاون مُفترض بين الشاه الوالد والزعيم النازي أدولف هتلر. المهم هو أنّ الشاه الجديد، ملك الملوك، لم يفرق عن كل من سبقه على الحكم في إيران باعتبار نفسه وريث مؤسس الإمبراطورية «قورش» قبل ٢٥٠٠ سنة.

حَمت دول التحالف حكم الشاهنشاه بعد الحرب العالمية الثانية، كما أنّ التعاون الأميركي - البريطاني أعاده إلى الحكم بعد ثورة «مصدق» سنة ١٩٥٣. لكن مع أفول نجم الإمبراطورية البريطانية وتسليمها مقاليد السلطة الكونية للإمبراطورية الأميركية الناشئة، أصبحت أميركا الراعي الأكبر للشاه، وبالتالي دعمت حكمه وسلّحت جيشه، وكان يُشكل ما سمّي وقتها بـ«شرطي الخليج» الذي كان يضمن توازن قوى لردع الدول العربية النفطية عن أي مغامرة كانت قد تزعزع سلطة «الأخوات السبع»، أي شركات النفط الكبرى التي سيطرت وما زالت على معظم أسواق النفط في العالم.

لكنّ دعم أميركا للشاه دفع معارضيه ليتقرّبوا من الاتحاد السوفياتي الذي كان على حدود إيران في أفغانستان. وهناك أيضاً من يؤكد أنّ عودة الخميني إلى إيران سنة ١٩٧٩ أتت في سياق منع تطور الأمور إلى ثورة مؤيدة أو متفاهمة مع الاتحاد السوفياتي. يعني أنّ التخلي عن الشاه أتى في هذا السياق، أي استبدال إمكانية وجود قوى ثورية يسارية في السلطة تُحسب في ميزان الحرب الباردة الدقيق لمصلحة السوفيات، بسلطة دينية محافظة ورجعية. وبالتالي، من المستبعد أن تتحالف مع المعسكر الشرقي «الملحد». والواقع أنّ ما فعله الخميني يومها كان أبعد من ذلك بكثير، فقد قضى على كل الحركات اليسارية في إيران بمجرد تمكّنه من القبض على مفاصل السلطة.

لا شك أنّ جمهورية الخميني رفعت منذ اليوم الأول تقريباً شعاراً شعبوياً له صداه الرنّان في عقول شعوب العالم الثالث، ومن ضمنه نحن العرب، وهو «الموت لأميركا» و«الشيطان الأكبر»، ومنّا من يعتقد أنّ هذه الجمهورية مَرّغت أنف أميركا بالوحل في قضايا عدة، أهمها قضية احتجاز طاقم السفارة الأميركية في طهران، وطرد السفير الإسرائيلي وتحويل سفارته إلى مقر لمنظمة التحرير الفلسطينية. لكن حسبما يبدو انّ هذه الجمهورية من باب العداء للشيطان الأكبر، أخذت دوراً محورياً في حماية دور أميركا في المنطقة، لا بل تعزيزه بشكل مضاعف.

هذا الدور انطلق مع الحرب الطويلة مع العراق أيام صدام حسين، حتى أنّ الولايات المتحدة دفعت لإطالة أمد الحرب وباعت أسلحة للطرفين، فتحوّل دور إيران من شرطي أيام بهلوي شاه إلى بعبع أيام خميني شاه!. لقد تمكنت الولايات المتحدة من الاستفادة من طموحات ولاية الفقيه، وتركها في كثير من الأحيان لتسرح وتمرح من دون رادع، بجعل أعدائها يتقاتلون في ما بينهم بعيداً عنها! كما أنه دفع بالمتضررين من ولاية الفقيه ومشاريعها أكثر فأكثر في حضن الشيطان الأكبر. 

من هنا، فإنه من الواجب علينا اليوم أخذ المواجهة الأميركية الإيرانية بعين من الحذر قبل استنتاج مسار الأزمة، وهل تريد الولايات المتحدة فعلاً القضاء على الطموحات الإمبراطورية الإيرانية الجديدة، أم أنّ الأمر لا يعدو كونه مجرد سيناريو محدود الأفق؟