ما يفكر فيه التونسيون في ما يتعلق بمستقبلهم يتناقض كليا مع طموحات رئيس حزب ديني يريد أن يعيد تونس إلى الوراء ألف سنة.
 

لن يكون غياب الباجي قائد السبسي عن المشهد السياسي التونسي مناسبة لتصدر راشد الغنوشي ذلك المشهد. فالسبسي وهو الذي درس القانون كان رجل سياسة حقيقيا أما الغنوشي فإنه يلعب بمشاعر الناس الدينية من أجل أن يوظفها في خدمة طموحاته السياسية.

السبسي هو رجل دولة مدني أما الغنوشي فهو داعية دين لا شأن له بالدولة ولا يعترف بها استنادا إلى منطلقاته النظرية. وإذا أردنا العودة إلى تاريخ الرجلين فقد كان السبسي موظفا في الدولة أما الغنوشي فقد كان يسعى إلى هدم تلك الدولة معارضا.

سيكون من الصعب الاستمرار في المقارنة بين الرجلين على مستويات عديدة. منها طريقة النظر إلى المجتمع وكيفية معالجة مشكلاته كما أن المرأة بحقوقها المدنية الناجزة في تونس تقف سدا بينهما. خلاصة القول إن السبسي هو رجل حياة أما الغنوشي فهو أشبه بحفار قبور.

كان غياب السبسي متوقعا. فالرجل عاش طويلا متمتعا بصحة جيدة. لذلك فإن تونس لن تفتقده بألم الحرمان. هناك نساء ورجال في تونس يمكنهم أن يحلوا محله وبكفاءة قد تفوق كفاءته. بشرط أن يتم الانتقال إلى النظام الرئاسي. وهو ما يتطلب إجراء تغيير عاجل في الدستور.

كان النظام البرلماني بمثابة مكيدة وقعت فيها تونس لتفترسها الأحزاب. يمكن للبرلمان أن يلعب دورا مهما في إقرار القوانين ومراقبة الدولة دستوريا لكن تونس في وضعها الانتقالي في حاجة إلى رجل قرار، يكون بحجم ما يحلم به شعبها.

الانتقال إلى النظام الرئاسي وحده هو ما سيحرم الغنوشي من التفكير في أن يرث السبسي في مكانته السياسية. سيكون من الصعب على مَن لا يعترف بالدولة أن يكون رجل دولة.

فكرة أن يكون الغنوشي حيا والسبسي ميتا لن يكون لها تأثير أبدا. ذلك لأن السبسي في موته قد يكون أكثر حياة من الغنوشي في حياته. فما يحتاجه التونسيون رجل حياة يقود مسيرتهم. لم يثر التونسيون من أجل أن يتسيّدهم فقيه بلباس مدني.

الحسابات التي يعمل على أساسها الغنوشي ليست صحيحة في ظل وعي الشارع التونسي بخطورة السير وراء الأحزاب الدينية التي تحوم حولها شبهات التشدد أو الإرهاب، لا في تونس وحدها بل وأيضا في العالم العربي.

ثم إن السنوات القليلة السابقة، بالرغم مما تخللتها من أزمات اقتصادية خانقة أضرت بشرائح اجتماعية كثيرة فإنها قدمت نموذجا لحيوية سياسية تقوم على أساس الحوار السلمي بين فعاليات المجتمع المختلفة. وما كان ذلك ليحدث إلا بفضل وجود آلية عمل مدنية في الحكم.

فالرئيس الراحل وإن بدا مترددا في بعض الحالات فإن حرصه على أن يكون رئيسا لكل التونسيين كان واضحا. أما الغنوشي فهو رجل عقائدي متشدد في حزبيته ولا يمكنه الخروج من دائرتها. في ذلك تقوى تونس على أن تكون فاصلة بين الرجلين. فرجل تونس الذي كانه السبسي هو غير رجل الحزب الذي يمثله الغنوشي.

لا بأس أن تكون لزعيم حركة النهضة طموحاته السياسية غير أن تلك الطموحات لا ترتكز على أسس واقعية، إلا في حدود المحيط الاجتماعي والثقافي الذي صنعته الحركة بعد الثورة مستغلة الفقر والحرمان الجهوي وخوف الناس من الدين.

وإذا ما كان علينا أن لا نستهين بذلك المحيط غير أن قدرته على إحداث تغيير في المزاج المدني التونسي تبدو محدودة. فـ”تونس” هي واحدة من أعرق الدول العربية من جهة نظامها المدني ناهيك عن أن قطاع التعليم فيها ظل مصانا ومتقدما وهو ما أضفى على القوانين التي وضعها الرئيس الحبيب بورقيبة مزيدا من الصلابة والتماسك والإقناع.

ما يفكر فيه التونسيون في ما يتعلق بمستقبلهم يتناقض كليا مع طموحات رئيس حزب ديني يريد أن يعيد تونس إلى الوراء ألف سنة.