ساحات الجوامع والكنائس مليئة بالتوابيت، شوارع البلدات مزيّنة طوال السنة بالأشرطة البيضاء، والزجاج الخلفي في سياراتنا مدموغ بـ«لن ننساك أبداً»... بس ما في زعران غير ببعلبك.

قتلى يسقطون في المرابع الليلية، وضحايا يبتلعون الرصاص الطايش مع كل ابتهاج، وعضلات تتمختر على الشواطئ وبين الأراغيل في المطاعم، وسيارات «مفيّمة» تغتصب زفت شوارعنا من الناقورة إلى العاقورة... بس ما في زعران غير ببعلبك.

سياسيون يسرقون المؤسسات، ومسؤولون ينهبون المرافق، وزعماء يتاجرون بالنفايات والأدوية والأسلحة، والمتزلّمون يفرضون خوّات ويبطشون ويشرّعون بإسم الأحزاب... بس ما في زعران غير ببعلبك.

معابر مفتوحة على التهريب، ومزاريب مفتوحة على الهدر، وفواتير مصابة ببروستات التجّار، وحسابات مصرفية لا أحد يعلم من أين لها هذا، وزعامات بقوّة الموتور والسيترن والديش... بس ما في زعران غير ببعلبك.

مقالات في المواقع الدخيلة على الصحافة، وتقارير في الإعلام المحسوب على فلان، وسوشل ميديا مفتوحة على مصراعيها للتجييش المستهبل بالجهل، وأخبار ممكيجة بالتضليل من بيت شقّو لبيت لقّو، حتى يطلع بالآخر... ما في زعران غير ببعلبك.

صحيح هناك زعران في بعلبك، وهناك أيضاً زعران في الأشرفية، وفردان، ومرجعيون، وطرابلس، ونيو دلهي، وامستردام، وحتى على القمر في زعران. لكن المحزن أنّ الجماهير لا تعرف عن بعلبك المدينة سوى القلعة، ولا تعرف عن بعلبك الناس سوى الزعران.

هل ذهبتم في حياتكم إلى بعلبك، هل عاشرتم مرّة أهلها، هل صادقتم شبّانها وشاباتها؟ هل تعرفون عنها غير الحجارة التي ترمونها من خلف زجاج طوائفكم وأحزابكم وقراكم؟

إذا كان الله يحبّكم تعطشون في بعلبك، أو تجوعون، أو تنعسون، أو تتعطّل سياراتكم، أو تنقطعون من حاجة ملحّة... فعندها لن تصادفوا الزعران، وإنما ستكتشفون شعباً كان طوال عمره مثالاً في الكرم والنخوة والشهامة. وهناك عدّة أمثلة يطلقها أهالي القرى المسيحية في البقاع المجاورة لبعلبك عن أهل المدينة. فيقولون مثلاً: «البعلبكي بيدبحلَك إبنو حتى يطعميك»، أو يقولون: «حتى الموت ما بيسترجي يقرّب عليك إنت ونايم عند أهل بعلبك».

وهناك البعض الذين ينعتون الانسان الكريم في ضيَعهم بالبعلبكي، من كثرة ما يشتهر أهل بعلبك بالضيافة والكرم. لكن لسوء حظّ اللبنانيين، هناك نوع من القرار المقصود أو غير المقصود بالتعتيم على الروح الحقيقية لأهالي هذه المدينة، وتسليط الضوء حصراً على التجاوزات والزعرنات، وتظهير صورة ملوّنة عن شعب بأكمله من «نيغاتيف» بعض الزعران الذين يعيشون وفق شريعة الغاب.

إشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي أمس بأخبار المجرزة التي وقعت في أحد الأعراس في بعلبك على خلفية «بيت عتابا»، وبالطبع اشتعلت معها نخوة المنظّرين في تعليب أهل بعلبك ونبذهم ومهاجمتهم. لكن لم ينتبه المركّزون على الزعران، إلى مناشدات أهل بعلبك ومطالبتهم الدولة بالتدخّل الفوري لإنهاء مظاهر التفلّت، وتخليصهم من الزعران لأنهم شبعوا من تجاوزاتهم، ومصادرة السلاح المتفلّت لأنه لا يؤذي إلّا أهل المدينة وصيتها. أصوات أهل بعلبك صدحت على كافة المواقع، لكننا كنّا صَابّين كامل اهتمامنا على الزعران لعلّنا نسجّل هدفاً طائفياً أو سياسياً أو عشائرياً.

في بعلبك زعران، ويجب أن يحاسبوا على كل هفوة ارتكبوها... لكن من المعيب محاكمة شعب بأكمله بسبب جريمة أفراد... ما البلد كلّو زعران.
صحيح أنّ إبن بعلبك يأخذ بالثأر ولا ينسى الأذى ويلحقه حتى القبر، لكن صحيح أيضاً أنّ إبن بعلبك لا ينسى المعروف ويبقى واجباً في رقبته طالما عاش. 
فلماذا لا تقدّم الأحزاب في المنطقة أي شيء غير السلاح وترسيخ منطق العشائر لأهل بعلبك، ولماذا لا تقدّم الدولة شيئاً غير التعتير والحرمان؟
بعلبك مدينة الشمس، ومن المعيب أن نسمح لبعض الزعران أن يحجبوا نورها عن العالم.