الحرج لا يتعلق بزواج المسلمين من المسيحيين أو العكس، بل حتى بحالات الزواج بين المذاهب عند المسيحيين والمذاهب لدى المسلمين، وإنْ بشكل أخف.
 
عاد الحديث عن الزواج المختلط إلى واجهة الجدل في لبنان بعد تأكيدات الرئيس اللبناني ميشال عون الأربعاء على أن الزواج المختلط يؤمن انتقال البلاد من الطائفية إلى المجتمع المدني.
 
قال عون، خلال لقاء مفتوح مع نحو 150 طالبا من 30 جامعة لبنانية في قصر بعبدا ببيروت، “إن حرية الزواج في لبنان تخضع لقوانين مختلفة رغم أنه من المفروض توحيد هذه القوانين، ففي مقابل قانون عقوبات واحد هناك قوانين أحوال شخصية متعددة تجعل من الأفراد وكأنهم منتسبون إلى طوائفهم فحسب”.
 
وأضاف “إننا سنتجاوز الأزمة الحالية وسيتحسن الوضع تدريجيا، وكل يوم سيكون أفضل من الذي قبله”، مؤكدا أنه “سيسلّم إلى رئيس الجمهورية المقبل، وطنا أفضل بكثير مما هو عليه اليوم، على كل الأصعدة وخاصة الصعيد الاجتماعي”.
 
كونفيدرالية طائفية
الزواج المختلط ليس جديدا في لبنان فهو ظاهرة تنتشر وتنحسر وفق الظروف التي يمر بها البلد. وعلى الرغم من تعدّد هذه الزيجات، إلا أنها بقيت استثناء عن القاعدة وتمثل هامشا محدودا مقارنة مع حالات الزواج من داخل نفس الطوائف والمذاهب.
 
ولطالما اصطدمت هذه الزيجات بحواجز ثقافية ومجتمعية وتقاليد عائلية عتيقة، غير أن التشريعات المعمول بها لا تتيح توسعا لهذه الظاهرة، لا بل تعتبر عائقا حقيقيا أمام جعل هذه الظاهرة طبيعية داخل مجتمع متعدد كالمجتمع اللبناني.
 
ومسائل الزواج المختلط شديدة الارتباط بقدرة المجتمع اللبناني على الاختلاط الصحيح.

فقد نشأ الكيان اللبناني منذ الاستقلال عام 1943 على نظام مجتمعي سياسي شبيه بكنفيدرالية طائفية تقسم المجتمع الواحد إلى فسيفساء مذهبية تعمل قوانينها وفق تشريعات المذاهب المتعددة والمختلفة، وليس وفق قانون واحد للبلد.

وقد درج اللبنانيون على التوزع جغرافيا وفق خارطة جغرافية حددت للطوائف مناطقها وحدودها المتخيلة، وجعلت من التجمعات السكانية ذات طابع طائفي أو مذهبي. وقد تم تحقيق اختراقات على مدى السنوات التي تلت الاستقلال، وشُكلت مناطق مختلطة، لطالما دفعت ثمنا دراماتيكيا باهظا خلال فترات الاحتراب الداخلي، ولاسيما تلك التي عرفت بالحرب الأهلية الني اندلعت عام 1975 وانتهت عام 1990 بعد توقيع اتفاق المصالحة في مدينة الطائف السعودية عام 1989.

وتكاد الخرائط التبسيطية توزع اللبنانيين داخل جبل لبنان الذي عرف تاريخيا بأنه منطقة التساكن والتقاتل بين الموارنة والدروز. ويعتبر شمال لبنان ذا غالبية سنية أمّا جنوبه فهو ذو غالبية شيعية. وتعرف مدن طرابلس وبيروت وصيدا بصفتها مدنا سنية، فيما صور وبعلبك هي مدن شيعية وجونية وزحلة هي مدن مسيحية. وعرف عن بيروت أنها مدينة سنية أرثوذكسية.

بيد أن هذه التصنيفات ليست دقيقة ولا تأخذ الطابع المعقد للمجتمع اللبناني وتطور تلاوينه الديموغرافية فالمسيحيون موجودون في جنوب لبنان وشماله، كما أن كافة الطوائف موجودة داخل منطقة البقاع اللبناني، فيما يتجمع السنة في منطقة إقليم الخروب في قلب الشوف المحسوب درزيا مسيحيا. أما العاصمة اللبنانية فأصبحت خليطا تتعايش فيه المذاهب داخل أحيائها وتتقاسم العيش داخل أحياء أخرى.

النفاق العلني

المفارقة أن حالة الاختلاط السكاني بين الطوائف ليست بالضرورة حافزا لزيادة نسب الزواج المختلط في لبنان، لا بل إن قواعد الاحتكاك بين الطوائف قد تسبب نفورا وتمسكا بسلامة النسل النقي داخل كل طائفة.

ولا تشجع العائلات التقليدية أبناءها وبناتها على الزواج من الطوائف الأخرى، على الرغم من أن ارتفاع نسب التعليم قد ساهم في تنشيط انفتاح نسبي محدود عابر للمذاهب.

والحرج لا يتعلق بزواج المسلمين من المسيحيين أو العكس، بل حتى بحالات الزواج بين المذاهب عند المسيحيين والمذاهب لدى المسلمين، وإنْ بشكل أخف.

وتبقى حالات الزواج المختلط في إطار لم يرتق إلى مستوى التعميم كتجربة تقتدى وتساهم في حالة الانصهار المجتمعي. وتعتبر قوانين الزواج والطلاق والميراث مجحفة لم تستطع إحقاق العدل في مقاربة الزواج من مذاهب مختلفة.

ويظهر الأمر جليا في حالات الزواج بين المسيحيين الذين يلجأون للحصول على الطلاق، إلى تغيير مذهبهم واتباع مذهب يبيح الطلاق. كما يجري التنقل بين المذاهب الإسلامية للحصول على امتيازات معينة في قضايا الميراث.

وتقف الطبقة الدينية لدى كافة الطوائف اللبنانية ضد الزواج المدني، وإن كان هذا الرفض يأخذ طابعا راديكاليا لدى الطوائف الإسلامية.

ولم تستطع الطبقة السياسية اللبنانية تجاوز الطبقة الدينية في هذا الشأن، خصوصا أن هذه النخبة مستفيدة من النظام الطائفي اللبناني وهي نتاج له يصعب عليها التمرد عليه.

ويمارس القانون اللبناني “نفاقا علنيا” من حيث قبوله بالزواج المدني الذي يعقده اللبنانيون خارج حدود لبنان ويعترف به ويعتبره نافذا وفق القوانين اللبنانية، فيما لم تقر التشريعات اللبنانية قوانين للزواج المدني في لبنان. وعلى الرغم من رواج اقتراحات سابقة بإقامة زواج مدني اختياري كنمط زواج يضاف إلى أنماط الزواج الدينية، إلا أن الأمر قوبل بمقاومة شديدة.

وقد أثارت تصريحات وزيرة الداخلية اللبنانية، من تيار المستقبل، ريا الحسن حول استعدادها لفتح حوار في شأن السماح بالزواج المدني، في فبراير الماضي، ردود فعل رافضة شاجبة لا تبشر بإمكانية العبور نحو هذه المرحلة في الأجل القريب.

يذكر أنه تم طرح الزواج المدني لأول مرة عام 1951 في مجلس النواب اللبناني، حيث تم رفضه، وفي العام 1999 ناقش مجلس الوزراء مشروع قانون الزواج المدني وتمت الموافقة عليه بالأغلبية في عهد الرئيس الراحل إلياس الهراوي، يوم حاز على أغلبيّة وزاريّة مُؤيّدة، لكنّ رفض رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري توقيع مشروع القانون المذكور آنذاك، مدعوما من السُلطات الدينيّة المُختلفة، حال دون تمريره. وقال الحريري وقتها “إن ظروف لبنان الآن لا تسمح بذلك”

وقد جرت مُحاولات لاحقة من قبل وزراء داخليّة سابقين، ولاسيّما من زياد بارود ومروان شربل، لحجب المذهب عن سجلات القيد، وكذلك تمرير تعديل على إحدى المواد القانونيّة للسماح بتسجيل الزواج المدني الاختياري في لبنان، لكنّ هذه المُحاولات أجهضت بعد وُصول وزير الداخلية نهاد المشنوق إلى منصبه.

يقول رئيس الجمهورية الأسبق إلياس الهراوي إنه تزوج في الكنيسة ولكن ذلك لا يلزم اللبنانيين بشيء. ويعتقد أن بطولة رجل الدين كانت في أن يقنع أبناء طائفته بأن الزواج المدني ممنوع. ويضيف “كان ممنوعا علينا نحن الموارنة أن نصافح الأرثوذكس، إلا أن الأحوال تغيرت اليوم، وحتى تحت قبة روما في الفاتيكان أصبح هناك زواج مدني”.

في مقابلة مع الرئيس الحالي ميشال عون أجرتها صحيفة النهار، قال إن “غالبية ردود الأفعال تميزت بالفجور والتصنع لأن الموضوع ليس مطروحا لإقراره بصفة جماعية وشاملة فهو اختياري وتكريس للمادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولا يحق لأحد الاعتراض عليه. ولبنان وافق على الشرعة، ومبدأ الزواج المدني الاختياري هو حل لبعض المشاكل التي يواجهها المواطنون. وأعتقد أن الردود كما لاحظنا تدل على فوضى مصطنعة وتسلط وتضليل إذ شبهه البعض وكأنه عملية جنسية إباحية (…) البطريرك يدافع عن موقف كنيسته، ولكنني أذكر القارئ بأن الزواج المدني لم يقر في بلد ما بموافقة الكنيسة أو رجال الدين. وهذا الأمر ينطبق أيضا على الدول الإسلامية حيث أقر الزواج المدني الإلزامي من دون موافقة رجال الدين والعلماء. أما في لبنان فهو ليس إلزاميا”.

وردا على من شبه أولاد الزواج المدني “بأولاد الزنا” أجاب “هذا الكلام يعتبر انتقادا لله عز وجل لأنه يوحي بأنه تعالى تأخر كثيرا لإرسال شرائعه السماوية الخاصة بعقد الزواج وبالتالي يصبح جميع البشر أولاد زنا لأن عقود زواج آبائهم وأجدادهم لم تكن وفق هذه القواعد”. في حين وصف رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري الوضع في لبنان بالقول “إننا سكارى حتى النخاع في الطائفية” وأكد أن “ما يجري ليس بكاء على الدين بل بكاء على الطائفية مثلما يحكى عما يحصل في ذكرى عاشوراء بأنه ما من أحد يبكي على الحسين بل يبكي على الهريسة”.

وفي الوقت الحالي، وعلى الرغم من المُطالبات المُتفرّقة بين الحين والآخر، بتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة، وبالتقيّد بالدستور اللبناني الذي يكفل الحريّات الشخصيّة، فإن لا أمل بحُصول عُقود “الزواج المدني” على الغطاء الشرعيّ والقانونيّ، لأسباب مُتعدّدة، في طليعتها ما هو مُرتبط بسطوة المرجعيّات الدينيّة وبنفوذها لدى القوى السياسيّة. ولا أمل أيضا بحصول هذا النوع من الزيجات على المُباركة المجتمعية، لتعصّب موروث ازداد حدّة في السنوات القليلة الماضية بسبب تفشّي الجرائم والمجازر تحت ستار الدين، وتوجّه المُجتمعات كافة في المنطقة والعالم، نحو الانغلاق والتقوقع القومي والديني والمذهبي.

وتعتبر المؤسسات الدينية لكافة الأديان والطوائف أن الزواج عقد مقدس سنه الله وينفذه وكلاؤه من رجال الدين بحسب شرائعهم، مما يعزز الدور المعنوي للمؤسسات الدينية في حياة الإنسان. وفوق ذلك هناك العائد المادي الذي يتم تحصيله من الرعاية والإشراف على المراسيم الدينية ومنها مراسيم الزواج والتي تعتبر أحد مصادر دخل هذه المؤسسات. ولكن هذه العوامل ليست السبب الحقيقي لرفض رجال الدين للزواج المدني، بل إنه الخوف من خسارة بعض رعاياهم عبر الزواج المختلط إن كان نتيجة لتحولهم إلى دين الشريك أو نتيجة لعدم اتباعهم أو ممارسة شعائر أي دين.

هذا هو سبب رفض رجال الدين القاطع للزواج المدني، وقد عبر عنه مفتي الجمهورية اللبنانية السابق محمد رشيد قباني مطلع عام 2013 بقوله “إن كل من يوافق من المسؤولين المسلمين في السلطتين التشريعية والتنفيذية في لبنان على تشريع وتقنين الزواج المدني هو خارج عن دين الإسلام”.

الالتفاف الكبير

تتم حفلات الزفاف التقليدية في لبنان في العادة بين شريكَي حياة من ذات الطائفة أو المذهب، فالسنة يتزوجون من السنة، والشيعة من الشيعة، والدروز من الدروز، والمسيحيون من المسيحيين.

الزواج بين شريكي حياة من طائفتين مختلفتين من الطوائف الـ18 الموجودة في لبنان أمر لا يمكن تصوره بالنسبة لمعظم الأسر اللبنانية، بل إنه “وصمة عار”.

ولا توجد في لبنان إحصاءات دقيقة بشأن الزيجات المُختلطة، لسبب بسيط أنّ هذه الزيجات لا تُسجّل في مكان واحد، حيث أنّ جزءا كبيرا منها يتمّ خارج “البيوتات الدينيّة” أي وفق صيغة “الزواج المدني”، وخارج لبنان، ولاسيّما في قبرص وكذلك في اليونان وتركيا ولو بنسبة أقلّ، مع العلم أنّ عبارة “الزواج المُختلط” لا تشمل الزواج بين شخصين من دينين مُختلفين فحسب، وإنّما من مذهبين مُختلفين. ويعود آخر إحصاء جرى في لبنان إلى العام 2013، أنجزته “الدولية للمعلومات”، تبيّن من خلاله أن عدد عقود الزواج المختلط في لبنان يصل إلى 173.883 عقدا، أي ما يمثل نحو 15 في المئة من إجمالي عقود الزواج المسجلة في لبنان.

وتتوزع عقود الزواج المختلط كما يلي:32.231 عقدا بين المسلمين من مذاهب مختلفة؛ و118.250 عقدا بين المسيحيين من مذاهب مختلفة؛ و10.797 عقدا
بين المسلمين والمسيحيين من مذاهب مختلفة.

وتبين الأرقام أن عقود الزواج بين المسيحيين من مذاهب مختلفة هي أكبر من تلك العقود بين المسلمين من مذاهب مختلفة، وتستحوذ نسبة 68 في المئة من عقود الزواج المختلط، بينما العقود بين المسلمين لا تشكل سوى نسبة 18.5 في المئة وعقود الزواج بين المسلمين والمسيحيين لا تستحوذ سوى نسبة ضئيلة 6.2 في المئة. وتوضح ميشلين خوري، موظفة في إحدى وكالات الأسفار في بيروت، أن “اللبنانيين الذين لا يستطيعون أو لا يرغبون في الزواج عن طريق المحاكم الطائفية يسافرون إلى قبرص أو إلى اليونان مع تسهيلات وخدمات في ما يتعلق بالأوراق اللازمة للسفر والإقامة في الفنادق”.

وبحسب المحامي باسل عبدالله، أحد المدافعين عن الزواج المدني في لبنان، فإن أغلب هؤلاء العرسان يحجزون رحلاتهم ليس إلى قبرص واليونان فحسب، بل أيضا إلى بلدان مثل تركيا وأوكرانيا وروسيا، ثم يعودون إلى لبنان وبحوزتهم أوراق ثبوت زواجهم.

وتؤكد الأمينة العامة للجنة العربية لحقوق الإنسان فيوليت داغر أن “غياب الزواج المدني طيلة سنوات عديدة شكل مأساة اجتماعية حقيقية وكان مصدر آلام وتعقيدات وأوضاع خارجة عن القانون بسبب دكتاتورية الزواج الطائفي”.

وتضيف “لقد أعادت أزمة الزواج المدني فتح جروح الحرب الأهلية في لبنان، حيث دفع المجتمع اللبناني ثمن الحروب الصغيرة المتتابعة التي قاسى منها بشكل واسع ومزقته في أعماقه وحرمته من وسائل دفاعه. مما حدّ من قدرته على بناء مستقبله بشكل خلاق. لم تعد الطائفية اليوم واحدة من الصفات الأكثر تخلفا فحسب، فهي ما زالت ملجأ الحماية في مجتمع صودرت أحلامه و فرض عليه انسجام اجتماعي مصطنع. لقد حلت الضمانة الطائفية مكان الضمانة الاجتماعية، وحال التماثل العضوي دون أيّ محاولة تجديد مدنية”.

وتوضح وسائل الالتفاف السابقة على هيمنة رجال الدين صعوبة وقوف المؤسسات الدينية في وجه تطور المجتمعات في العصر الحالي. ولا تزال منظمات المجتمع المدني اللبنانية تكافح من أجل إقرار قانون مدني لا يجعل عقد القران في أيدي القساوسة والشيوخ فحسب. غير أن قوة الأديان في لبنان، المتعدد الطوائف، لا تزال هي المسيطرة.