نشر موقع Expatistan تقريراً عن كلفة المعيشة في 105 دول و317 مدينة حول العالم، والذي اعتبر بيروت أغلى مدينة في الشرق الأوسط لناحية الخدمات. والمضحك المبكي استغراب البعض كيف أنّ بيروت أصبحت من الأغلى في المنطقة، خاصة اننا منذ سنوات نُعتبر البلد الاغلى في المنطقة لإنتاج اي سلعة ويُصارع الصناعيون يومياً للبقاء في الدائرة التنافسية والحفاظ على ما تبقى من صناعات في لبنان. 

لماذا أصبحنا الاغلى والاكثر كلفة؟ لأننا ما زلنا مقتنعين بمبدأ الحصرية والاحتكار، ولأننا فشلنا في المحافظة على التنافسية في طريقتنا في القيام بالاعمال والمعاملات اليومية المرتبطة بها، والاهم اننا فشلنا بالرغم من تعهداتنا للدول المانحة بإدخال لبنان الى عصر الاقتصاد الحر المفتوح. 

من المعروف انّ اكثر من 80 في المئة من استهلاك اللبناني بضائع مستوردة، فما علينا الّا ان نتفحّص رسوم مرفأ بيروت، لأنّ أكثرية المستوردات تعبر من خلاله. إنّ رسوم مرفأ بيروت إضافة الى مصاريف تسهيل المعاملات تبيّن أنّ هذه الكلفة هي بحوالى 2 في المئة كمعدل من كلفة المستوردات، وقد تكون الأعلى نسبة في العالم. واذا تفحّصنا كلفة نقل البضائع من مرفأ بيروت واليه، واذا قسمناها على عدد الكيلومترات، سنجد أيضاً أنّ الكلفة مرتفعة جداً، وخاصة انّ الشاحنة لا تستطيع ان تقوم بأكثر من حمولة في اليوم الواحد بسبب التعقيدات! 

ننتهي من تكاليف المرفأ لندخل في تكاليف الجمارك، خاصة عند الاستيراد الجوي. هنا خالفنا كل الاتفاقيات التي وقّعناها واخترعنا رسوماً جديدة، مثلاً رسم جمركي موحّد، فكيف يكون إعفاء الرسوم الجمركية بحسب الاتفاقات الموقعة مع الاتحاد الاوروبي والدول العربية، ونخترع مثلاً رسماً جمركياً موحّداً؟. 
وننتقل من المرفأ الى المطار وأسعار تذاكر السفر الأغلى في المنطقة وعلى متن كل خطوط الطيران الاجنبية العاملة على خط بيروت. 

لبنان أصبح خارجاً كلياً عن لعبة التجارة الالكترونية العالمية ويُمارس حمايات عجيبة غريبة لصالح الوكلاء الحصريين، فما زالت المحاكم تأمر بمصادرة بضائع اذا استوردها غير وكيلها الحصري. أمّا الاستيراد عن طريق البريد السريع وتحالف شركات البريد السريع مع الجمارك اللبنانية لتعقيد عمليات تخليص المستوردات، فتدفع شركات البريد السريع مثلاً 30 الف ليرة عن المستورد بين طوابع وبيان جمركي... وتكلّف المستورد 50 الفاً لأنها دفعت عنه 30 الفاً، والظاهر انّ هذا التحالف مدعوم ومستمر وأعطى الحق للمفتش الجمركي في أن يُضاعف السعر المعلن في فواتير الاستيراد على قطع غيار صناعية هي بالأساس معفية من الجمارك من دون توضيح الأسباب، فقط لزيادة الرسوم والتعقيدات بما يُساعد شركات البريد السريع على ابتزاز المستورد.

وإذا حاول المستورد أن يُخلّص مستورداته بنفسه، سيكتشف أنّ التعقيدات ستكلّفه أكثر من المبلغ الذي تقاضَته منه شركة البريد السريع، وحتى الـLiban Post صارت تكلّف المستورد تكاليف تخليص. بلد يخترع ضرائب تُكلِّف المُكلَّف دفعها أكثر من قيمتها، هو بلد سائر نحو الانتحار الاقتصادي. 

إذا أراد الصناعي أن يصلح لوحة تحكّم إلكترونية لمكنة صناعية مثلاً وأرسلها الى خارج لبنان، فإنّ معاملة التصدير وإعادة الاستيراد تحتاج الى أسبوع قبل التصدير وكلفة تتعدّى المئات من الدولارات بتعقيد لا مثيل له، ممّا يضطرّه الى إرسالها واستعادة استيرادها على انها جديدة والكلفة ايضاً وايضاً هي مئات الدولارات. واذا لم ينجح التصليح واضطر الى اعادة القطعة للتصليح مرة ثانية، فإنه يتكلّف الثمن نفسه. 

لننتقل مثلاً الى رسوم تسجيل السيارات وهذه حتماً الأغلى في العالم، وهي بالواقع أصبحت جمارك جديدة لأنها مرتبطة بثمن السيارة، وأدّت الى وجود 500 الف سيارة في لبنان غير مسجلة ولا تدفع الميكانيك. 

علينا ان نقتنع اليوم انّ رقابة الاسعار لا تكون الّا من خلال التنافس الحر والمطلق، فمَن المسؤول عن تعقيد عمليات الاستيراد الفردي؟ ومَن يحمي الوكيل الحصري ومن يمنع التنافس الحر؟ ومن يحمي كارتل الدواء ويجعلها عملية معقدة ومحصورة؟ إشتريتُ أخيراً علبة دواء approvel 150 mg من ايطاليا بسعر 8.84 يورو مصنّعة في فرنسا أي نصف السعر المعتمد في لبنان، وفي اوروبا يربح الصيدلي بالبيع بالمفرّق أكثر من ربح الصيدلي في لبنان! 


قطع غيار السيارات سعرها في لبنان بالمعدل ضعف سعرها العالمي، ومن لا يصدق فليُقارن الاسعار من خلال الانترنت، والسبب كالعادة عدم فتح التنافس الاقتصادي على مصراعيه وتعقيد الاستيراد الفردي. 

كلفة اتصالات الخلوي في لبنان من الاغلى عالمياً، ونحن نمنع التنافس في القطاع ونصرّ على الحفاظ على تعرفة ثابتة غير تنافسية وتوحيد الاسعار بين الشركتين ومنع التنافس. والأسوأ التضليل وعدم الشفافية في الاسعار، وعدم تقديم باقات تنافسية كما في اوروبا او دول الخليج مثلاً، واعتبار الوحدة الحسابية دقيقة بدلاً من الثانية. 

موضوع القيَم التأجيرية في بيروت مثلاً وكل الاجراءات الاستنسابية المعتمدة لهذا الغرض، ستكشف انّ الشقق الجديدة في وسط بيروت مثلاً عليها أغلى ضرائب مالية وبلدية في العالم. ونصرّ على عدم تطبيق التخمين المركزي للتخلّص من الاستنسابية في التخمين. 

والفوائد أصبحت مرتفعة جداً ولا تسمح بأي استثمارات جديدة. والأهم المصاريف، فمثلاً يجب عليك أن تدفع 2 في المئة على سحب الدولار من الصرّاف الآلي، ودولارين على كل شيك بالدولار...

واليوم تأتي ضريبة جديدة عبر زيادة الـ3 في المئة على استيراد السلع غير المعفية من الـTVA مما سيزيد الاسعار حتماً أكثر من 5 في المئة على المستهلك. وغير صحيح انّ هذه الضريبة هي لحماية الصناعة، لأنّ الأصناف المستوردة والتي يوجد منها صناعة محلية لا تشكل أكثر من 15 في المئة من مستورداتنا، وحمايتها واضحة خاصة من البلدان التي تدعم صناعاتها، ويجب ان تكون أقله 20 في المئة. 

وبالرغم من المعطيات الواضحة، كان الاصرار تحت غطاء حماية الصناعة اللبنانية على فرض هذا الرسم، وهو بند ضريبي جديد سنتحمّله ربما خلال الخمسين سنة المقبلة. وقد تمّ بيع المواطن هذه الفكرة على انها أفضل من الـTVA، علماً انّ المواطن لن يقتنع بأي ضريبة جديدة ما لم يدخل الى عصر الشفافية المطلقة ويتمكن من الاطلاع على كل حسابات الدولة، وهذا لن يتحقق الّا عبر تعديل قانون الحق في الوصول الى المعلومات وتطبيقه، وفي المقابل تم الحفاظ على تسهيل التهرب من الـTVA من خلال المحافظة على 100 مليون ل.ل. لفرض التسجيل في هذه الضريبة.

والواقع اليوم يُظهر انّ حجم أعمال آلاف الشركات والمحلات، والسوبرماركت، والكاراجات، وأصحاب المهن الحرة... أكثر بكثير من 100 مليون غير مسجّلين ولا من يسأل ويُراقب. إنّ الاقتصاد الخارج عن منظومة الـTVA هو اكبر من الاقتصاد الشرعي خاصة في ما يتعلق بالسلع الاستهلاكية والخدمات، ولا توجد محاولة جدية للسيطرة على هذه الآفة. 

ولا بد من الاشارة الى انه من الأجدى ربما العودة الى الرسوم الجمركية كما كانت عليه قبل اغتيال الصناعة الوطنية وإلغاء كل الحمايات باسم انضمام لبنان الى منظمة التجارة العالمية، وخاصة اننا لم نستطع ادارة موضوع الـTVA بفعالية منذ 17 عاماً وحتى اليوم. 

نعم سنبقى أغلى خدمات في الشرق الأوسط، وما زلنا نصرّ على عقلية الحصرية والاحتكار في كل شيء، ونرفض تطبيق التنافس الحر ووضع عراقيل وحماية نافذين وإعطاء خدمات من دون مناقصات شفّافة وتنافسية.