مصطلح دولة غير معلنة رغم أنه ينطبق تماماً على «حماس» وغزة، فإنه قليل التداول في وصف واقع الحال على أرض مساحتها 300 كيلومتر مربع وسكان تعدادهم أكثر من مليونين نسمة.


«حماس» تدير القطاع وأهله بتحكم مطلق في كل نواحي الحكم والإدارة، فهي تجبي الضرائب وتسن القوانين وتدير جهازاً قضائياً ومحاكم، تعتقل وتفرج، وفيما يتصل بالحدود شمالاً وجنوباً، فهي المتحكم في من يدخل أو يخرج وفق المساحة المحددة من الطرفين الممسكين بالمنافذ... مصر جنوباً وإسرائيل شمالاً.


اصطلح العالم على وصف سلطة «حماس» في غزة بأنها سلطة الأمر الواقع، وتحت هذا الوصف تقيم «حماس» علاقات كاملة مع دول وحكومات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فمن أجل مصداقية أدبيات المقاومة وشعاراتها تقيم الحركة علاقات تفصيلية مع إسرائيل تحت عناوين متعددة ومن خلال أطراف كثيرة، ومن أجل نفي الاتهام بأنها تقيم دولة خاصة بها في غزة بديلاً عن الدولة الفلسطينية المنشودة على جميع الأراضي في عام 1967، تكثر من الحديث عن المصالحة وسعيها من أجل إنضاجها، ذلك أن مصطلح المصالحة المحبب جماهيرياً يصلح كغطاء بريء للاستقلال التام عن الكيان الواحد المفترض أن تعبيره التاريخي والسياسي والتمثيلي هو منظمة التحرير وذراعها السلطة الوطنية.


مظاهر الاستقلال عن الجسم الأصلي ليس فقط إدارة سلطة كاملة داخل البقعة الجغرافية المقتطعة من الوطن وما عليها من بشر، بل من خلال ممارسة سياسة خارجية لا تمارسها عادة إلا دول مستقلة، ذلك يتجلى في رزمة علاقات خارجية سياسية ودبلوماسية وتحالفية، ما كانت تمارس قط زمن كان الجميع يلتزم بمنظمة التحرير بوصفها ممثلاً وحيداً للشعب الفلسطيني، فـ«حماس» (حاكمة غزة) تقيم علاقاتها مع الحكومات والدول بمنطق دولة لدولة وتنافس السلطة الشرعية في أمر متابعة شؤون الفلسطينيين مع الدول والحكومات التي يقيمون داخل كياناتها، وتنشئ وترعى أجساماً جديدة في المنافي على حساب مسلّمة وحدانية التمثيل الفلسطيني التي كان عنوانها وإطارها منظمة التحرير.


صحيح أن معظم الأجسام التي أنشئت عبر مؤتمرات حاشدة وأفرزت إطارات ذات أسماء مختلفة كانت تستخدم اسم منظمة التحرير وترفع شعار تصويب مسارها، إلا أن الأمر في هذا المجال يشبه استخدام مصطلح المصالحة لغوياً وشعارياً، بينما ما يجري على أرض الواقع هو الذهاب سريعاً نحو الانفصال.


خصوم الفلسطينيين - وهم ليسوا قليلي الشأن على أي حال، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وإسرائيل - يقرأون الخريطة الفلسطينية بكل تضاريسها وتفاصيلها ويراقبون استفحال وتعمق الانقسام كل يوم، وهذا الواقع الذي يستخدمه الخصوم بكفاءة هو ركيزة سياساتهم التدميرية ضد الفلسطينيين وحقوقهم وحلمهم المشروع في إقامة دولتهم على أرض وطنهم، فأميركا تطرح الحل الاقتصادي مستفيدة من الواقع المأساوي لأهل غزة، وتوغل «حماس» في السعي وراء المزايا الموعودة في التهدئة، أما إسرائيل التي لا تحتاج لأي قدر من التمويه على سياستها، وخصوصاً تجاه غزة، فتعلن كل يوم أنها ستحافظ على الانقسام بوصفه ذخراً استراتيجياً لها وهي على أتم الاستعداد لتقديم كل ما يلزم كي يظل قائماً ومتجذراً، بما في ذلك حمل المال القطري على الأكتاف وإيصاله إلى غزة، ويجري الحديث الآن عن مستشفى كبير يقام على الحدود للتخفيف من معاناة المرضى الغزيين، وعلى الطريق مشاريع أخرى هي في الواقع تطبيق عملي لما ترفضه شعارات «الحل الاقتصادي».


السكين الإسرائيلي بمقبضه الأميركي يشق طريقه بسهولة شق قالب من الزبدة؛ ذلك أن الوضع المأساوي في غزة يجعل كل ما يطرح من مشاريع تنموية وإسعافية أمراً لا يمكن رفضه، وهذه هي الأرض التي ينمو عليها الحل الاقتصادي الذي تسعى صفقة القرن لجعله بديلاً عن الحل السياسي الذي يسعى الفلسطينيون إليه متجسداً في حق تقرير المصير.
على صعيد المواقف المعلنة، فإن هنالك اتفاقاً بين طرفي الانقسام على رفض صفقة القرن، غير أن ما تحت هذا الرفض وما فوقه هو اختلاف على كل شيء يغطى باتهام متبادل بأن كل طرف ضالع في تنفيذ صفقة القرن.
إن صدقية رفض الصفقة لا تستقيم مع استمرار الانقسام والجري الحثيث نحو الانفصال.. إن صدقية الرفض يجسدها توجه عاجل وجذري لإعادة الوحدة السياسية والكيانية والإدارية للأرض والشعب الفلسطيني، ودون ذلك فإن كل ما يقال لا صدقية له.