في الأرقام وفي المناصب، لعب الباجي قايد السبسي اللعبة السياسية بأقاسيها. بدأ العمل السياسي ناشطاً، عام 1941. ومرّ بكل المهمات والوظائف الصغيرة والكبيرة، إلى أن غادر في الثانية والتسعين، رئيساً للبلاد، وحامياً للوحدة التونسية، وفارساً في الدفاع عن قيَم الدولة التي أسسها معلّمه الحبيب بورقيبة.


79 عاماً في العمل السياسي رقم قياسي لم يسبقه إليه أحد إلاّ سي الحبيب، الذي مثله درس الحقوق في فرنسا المستَعمِرة، ومثله قلّد المستعمِر في اعتماد القوانين المدنية، لكنه تعلّم من تجربته ألاّ يقارب صراعات العرب، بحيث لا يخرج منها خائناً وعميلاً. كانت رياداته كثيرة مثل أرقامه. فهو دون أي شك أول رئيس بالانتخاب الحر والنزيه. ومن أقداره أنه حمى تونس من التفكك الذي بدأته شرارة ابن مدينته، سيدي بن يوسف، عام 2011. وقد استطاع السبسي أن يضبط حركة البراكين السياسية الخامدة في البلاد، وأن يعقد توافقاً وطنياً مع خصمه الأول، الغنوشي، وهو أمر لم يحدث في أي بلد آخر من بلدان الربيع العربي. وقد يكون للتونسيين وطبعهم وثقافتهم المدنية في تقبل الآخر، دور أساسي في ذلك، لكن المهارة الأولى تعود إليه وإلى سمعته بين التونسيين وتاريخه الوطني الطويل ابتداءً من وزارة الخارجية، إلى رئاسة الوزراء، إلى رئاسة الجمهورية، وهو في الثامنة والثمانين من العمر، ويضجّ بالحيوية والحياة.


مع غياب السبسي يغيب آخر أبناء الجيل الاستقلالي المؤسس. وسوف يكون على التونسيين التعوّد بعد اليوم على رؤساء ما بعد البورقيبية، وسوف يفتقرون بالتأكيد إلى أصحاب تلك الهالة الوطنية القادرة بسبب ماضيها الوطني على اتخاذ القرارات الصعبة في البلاد، ومنها ضبط طموحات الحركة الغنوشية. سوف يبحثون بعد اليوم في صفوف الشباب وأهل الحداثة، عن رجال يملكون المؤهلات المستقبلية بدل التجارب الماضية. والواقع أن ذلك كان يمكن أن يحدث بعد إقالة بورقيبة نفسه مباشرة، لكن انقلاب زين العابدين بن علي، لم يُفسح المجال لذلك.


ثلاث دول مغاربية من أصل أربع تقف اليوم على حافة التغيير: تونس، والجزائر، والكارثة الليبية. والفارق بينها أن العسكريين لا يشكلون في جمهورية بورقيبة قوة حاسمة، أو خفيّة، كما هو الأمر في الجزائر وطرابلس. والفارق الآخر أن السبسي لم يترك خلفه حلقة من المحسوبين، كما فعل بوتفليقة، ولا يترك بلداً بلا أي مظهر من مظاهر الدولة، كما فعل القذافي.