لا أحد يرى كيف باستطاعة هذا الرجل أن ينجح في قيادة بريطانيا في وقت لا يحظى فيه بتضامن قيادة الحزب حتى لو محضته قاعدة الحزب بهذه الشرعية.
 

لا مفاجأة كبرى في انتخاب بوريس جونسون على رأس حزب المحافظين. الأمر رصدته شركات الاستطلاع قبل ذلك دون عناء. يقرر المحافظون، أو الأغلبية منهم، حمل رمز قوي من رموز البريكست إلى السلطة في بريطانيا. ومع ذلك تعبّر بريطانيا منذ أشهر، وتعبّر أكثر منذ ساعات، عن وهنها وارتباكها وعن أنها لم تعد “عظمى لا تغيب عنها الشمس”.

قدمت بريطانيا منذ الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي في يونيو 2016 الدليل تلو الدليل على اهتزاز مقلق أصاب نسيجها المجتمعي وعلى ارتباك مخزٍ لطبقتها السياسية. بدا أن الشوفينية المفرطة التي قادت إلى نزوع إلى التعالي على “المشروع الأوروبي” فاحت من عقم فكري أصاب نخبة البلاد الحاكمة.

غابت شخصيات بقامة ونستون تشرشل ومارغريت تاتشر للتعامل مع أسئلة وجودية ملحة وداهمة. وبدا أن أولي اليمين كما أولي اليسار في لندن متفقان على أداء وضيع. لم يعد “العمال” نقيضا حقيقيا لـ”المحافظين” إلا في ما يرتبط بالـ”خربشة” من أجل غرف مقاعد في هذه الدائرة الانتخابية أو تلك. في ذلك أيضا برزت تنظيرات اليساري المفرط جيريمي كوربن زعيم “العمال” من أجل الخروج من أوروبا من باب خلفي يتشاطر به على “المحافظين”.

لكن بريطانيا التي تريد “الانفصال” عن الاتحاد لاستعادة سيادتها الكاملة والعودة إلى حضن تاريخ منقرض تحنّ به إلى عظمتها، تكتشف أنها دولة متوسطة الحجم لن تجد في الشبكات الدولية التي تصبو إليها بديلا يعوضها الأرباح الكبرى الاقتصادية والسياسية والسيادية التي اكتسبتها وراكمت جنيها منذ انضمامها الصعب إلى “أوروبا” في سبعينات القرن الماضي.

ناضلت لندن منذ عام 1961 في عهد رئيس الوزراء هارولد ماكميلان للقبول بها عضوا داخل الصرح الأوروبي. كانت بريطانيا التي تعاني من ضائقة اقتصادية ترى في الفضاء الأوروبي مجالا يتيح لها الانتعاش والتغلب على أزمتها. وضع الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول فيتو ضد طموحات لندن ورفض دخول بريطانيا إلى النادي الأوروبي. رفض ذلك عام 1963 ثم رفض ذلك عام 1967.

رحل ديغول عن حكم بلاده وغادر السياسة وتوفي عام 1970. دخلت بريطانيا إلى “أوروبا” عام 1973. كانت حجة ديغول في رفض بريطانيا أنه لا يريد “حاملة طائرات أميركية” في قلب أوروبا، غامزا من قناة تبعية لندن لواشنطن.

بيد أن بريطانيا هذه الأيام تشكو ضعف أسطولها ولا تبدو أنها أميركية الهوى ولا يكفي أن تكون كذلك للتعويض عن احتمال خروجها، خصوصا دون اتفاق، من الاتحاد الأوروبي. يكفي تأمل موقف بريطانيا من إيران في الأيام الأخيرة لاكتشاف هذا الضعف الذي تعانيه لندن داخل عالم شديد التحولات.

تتخذ بريطانيا موقفا بعيدا عن موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مسألة الاتفاق النووي مع إيران. ترفض خيار واشنطن بالخروج من اتفاق فيينا، تعلن تمسكها -كما بقية الدول الموقعة- بالاتفاق، تشارك في صياغة آلية أنستكس الأوروبية للالتفاف على العقوبات الأميركية والاستمرار في القيام بالتبادلات التجارية مع إيران. بالمحصلة تتخذ لندن موقفا أوروبيا يتناقض مع نزوعها نحو “التخلص” من أوروبا.

لكن لندن مع ذلك تفرج في الأشهر الأخيرة عن أعراض تموضع وفق الوجهات الأميركية. يعلن وزير الداخلية البريطاني ساجد جاويد (أصبح وزير المالية في الحكومة الحالية) في فبراير الماضي عن وضع حزب الله بجناحيه السياسي والعسكري على لوائح الإرهاب. لا شيء بعينه قد حدث في بريطانيا يحفّز لندن على اتخاذ قرار كهذا من داخل سياق بريطاني.

 جرى بعد ذلك أن نشرت صحف لندن كشفا مخابراتيا مسربا يتحدث عن مداهمة الشرطة عام 2015 (أي أقبل 4 سنوات) لأماكن تخزين للمتفجرات تابعة لحزب الله. بدا أن بريطانيا تستعير من أرشيفها ذرائع تبرر الاستفاقة المتأخرة على الحزب الذي تعتبره واشنطن إرهابيا وتكافحه بالعقوبات. وجرى مؤخرا أن أوقفت سلطات جبل طارق (البريطانية) ناقلة نفط إيرانية بحجة أنها تنقل نفطا إلى سوريا التي لا تتيح لها العقوبات الأوروبية ذلك. بررت لندن الأمر بدواع أوروبية، فيما وزير خارجية إسبانيا أعلن جهارا أن سلطات جبل طارق تصرفت تنفيذا لطلب أميركي.

تهتز سفينة بريطانيا بقوة. واضح أن قيادة السفينة محتارة بين تيريزا ماي الراحلة وبوريس جونسون الوافد. وواضح أن لندن مشتتة الخيارات بين الاستقواء بأوروبا أو التعويل على الولايات المتحدة. بدت بريطانيا منكشفة أمام فضيحة قيام إيران بإيقاف ناقلة النفط البريطانية من قبل الحرس الثوري الإيراني. والفضيحة أن الأمر متوقع وكلاسيكي في الرد في مضيق هرمز على ما حدث في مضيق جبل الطارق، إلا أن لندن بدت مذهولة متفاجئة تتهم طهران بالقرصنة.

واللافت أن لندن التي صدّعت رؤوس العالم بإصرارها على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وحتى دون اتفاق وفق وعود بوريس جونسون في أواخر أكتوبر المقبل، لم تجد إلا اللجوء إلى أوروبا، وإلى فرنسا وألمانيا بالذات، من أجل تشكيل قوة بحرية تحفظ أمن ناقلاتها في الخليج. سمعت من واشنطن موقفا مخجلا في أمر محنة ناقلتها المقرصنة في موانئ إيران. خرج وزير الخارجية الأميركي بتصريحه الصادم أن “على بريطانيا الاهتمام بأمن ناقلاتها”.

قد يَصْدقُ قائل في بريطانيا في أن بوريس جونسون سيدخل التاريخ كون مدة رئاسته لحكومة بريطانية ستكون الأقصر في تاريخ هذا البلد. تتخلى أسماء قيادية كبرى في حزب المحافظين عن زعيمها الجديد. لا أحد يرى كيف باستطاعة هذا الرجل أن ينجح في قيادة بريطانيا في وقت لا يحظى فيه بتضامن قيادة الحزب حتى لو محضته قاعدة الحزب بهذه الشرعية.

تمكنت تيريزا ماي بشقّ النفس من تشكيل حكومتها مع حليفها الأيرلندي، فكيف لجونسون أن ينسج تحالفا من داخل برلمان مشتت متأثر بروحية الانتخابات الأوروبية الأخيرة. أصيب حزب المحافظين بنكسة كبرى مقابل صعود حزب بريكست بزعامة اليميني نايجل فراج، لكن أيضا بصعود حزب الديمقراطيين الأحرار وحزب الخضر. الأمر ينذر بانقلاب المشهد البرلماني برمته إذا ما دعي الناخبون لانتخابات مبكرة تبدو احتمالا واردا.

يصل جونسون لقيادة بلد لا يستطيع الخروج من أوروبا ولا يبدو أن العالم برمته يريده خارج أوروبا. بومبيو صبّ في تصريحه الأخير زيتا على نار المشككين في بريطانيا بالولايات المتحدة وبإمكانية الركون إليها خاصة بقيادة ترامب. تبدو لندن وقد حاصرها الفخّ الإيراني في مضيق هرمز ترتجل ردود الفعل بما يكشف عن غياب أي استراتيجية ناضجة لديها للتعامل مع “القرصنة” الإيرانية من جهة وتكرار تمسكها بالاتفاق النووي من جهة أخرى.

لكن أكثر من ذلك يكشف حدث الناقلة البريطانية وهنا بنيويا يعترف به نائب وزير الدفاع البريطاني توبياس إلوود (السابق الآن بعد تشكيل حكومة جونسون). يقول الرجل إن “حجم قوات البحرية البريطانية صغير جدا كي يحمي مصالح الدولة في جميع أنحاء العالم”. يضيف أن “التهديدات التي نواجهها تتزايد، كما أصبح العالم أكثر تعقيدا، إذا أردنا الاستمرار في لعب دور مهم على الساحة الدولية”.

في بروكسل هناك من يبتسم بحبور ويعتبر أن وصول جونسون إلى الحكم هو أقصى قمم الفشل البريطاني في الخروج من أوروبا. هناك أيضا من يعوّل على أن بريطانيا ستنقلب على جونسون وعلى نفسها وتعيد تصويب الدفة صوب الخيار الصحيح.