«الحجّة ام جهاد»، هي بطلة إحدى الفقرات الحوارية الكوميدية في مسرحية فيلم اميركي طويل لزياد الرحباني، في الثمانينات، ولأنّ الحجّة «مش عارفة شي من شي»، كانت تصرّ على سؤال جارها مفكّر الحركة الوطنية «شو الاخبار»؟ فيجيبها: «بيقولو بَدّا تِهدا»، ثم يجيبها بعكسه في يوم آخر ويقول لها: «بيقولو بَدّا تِعلق»، ليتبيّن له في نهاية الامر انه هو ايضاً «مش عارف شي من شي»!
 

مناسبة الحديث عن «ام جهاد»، أنها استحضرت في مجلس أحد السياسيين؛ كان بعض محدّثيه، يسألونه ان كان يملك سرّ تفاقم الأزمة السياسية الراهنة، وما يدفع بها إلى هذا الحد من التوتر، وتعطيل الحكومة، وما الذي يحول دون إيجاد حل لها حتى الآن؟

جواب السياسي كان صادماً في صراحته، إذ انه قال لمحدثيه من دون اي تردد: «صرنا متل «الحجّة ام جهاد» مش عارفين شي من شي»!
ثم يستعرض الصورة: نهاراً نكون امام اجواء إيجابية يبدو البلد فيها وكأنه قارَب أن يتجاوز الأزمة، ولكن فجأة تذوب هذه الإيجابية وتعود السلبية لتتسَيّد الازمة، ويعود الدوران في الحلقة المفرغة التي ‹دوّخت» البلد، و«داخ» معها اللواء عباس ابراهيم من الكلام ذاته الذي يسمعه في وساطته المكوكية على جبهتي قبرشمون.

ويضيف صاحب هذا الكلام، حصلت الحادثة، إنقسم البلد، قالوا لنذهب إلى المجلس العدلي، فردّوا عليهم لا فلنذهب إلى المحكمة العسكرية، ولكلا المنطقين قوى سياسية فاعلة تغطّيه وتحقنه من الخلف. تعطلت الحكومة، ويقولون انّ هذا التعطيل لا يجوز فضرورات البلد تستوجب حضور الحكومة وانعقادها، وهم أنفسهم في لحظة الجد، يظهرون على حقيقتهم ويلحسون كلامهم وحرصهم على الحكومة ويعطّلون. وبالأمس طرح التلازم بين الشويفات وقبرشمون، الكلام العلني طري ولين، وأما في عمقه وحقيقته فحادٌ في رفضه. والامور عند نقطة الصفر.

ويمضي قائلاً: كل الرؤساء، وكل السياسيين وكل أحزاب الحكومة يعبّرون علناً وجهاراً انّ البلد بلا سلطة تنفيذية أشبه بجسم بلا رأس، ولا بد من انتظام العمل الحكومي، ومثل هذا الكلام يتردد ويتكرر منذ ما يقارب الشهر، من دون أن يجد ترجمة ولو شكلية له، بل على العكس، بَدا جليّاً انه كلام يتبخّر امام حماوة المناكفات، بل امام حماوة «القرار الضمني» لدى بعض المستويات الرفيعة سياسياً وحزبياً، بتعطيل الحكومة. نسألهم: يا جماعة ماذا تريدون؟ ولماذا تعطّلون الحكومة؟ فيقولون أبداً نحن مستعدون لحضور جلسات الحكومة، الآخرون هم من يعطّلون؟! نسأل الآخرين فيأتينا الجواب نفسه. كأننا صرنا أمام «راجح» جديد يخطف الحكومة ويمنعها من الانعقاد.

الحاسم لدى صاحب هذا الكلام، هو أنّ المسألة أكبر من حادثة قبرشمون، وأكبر من طلال أرسلان ومطالبته بالمجلس العدلي، وأكبر من الرد عليه بالمطالبة بإحالتها إلى المحكمة العسكرية. ومن هنا فإنّ القول إنّ طلال أرسلان هو من يعطّل الحكومة حتى يحقق مطلبه، هو مزحة. واسأل عن سر الاصرار على إحالة حادثة قبرشمون الى المجلس العدلي، في وقت لا تضمن هذه المطالبة الأكثرية في مجلس الوزراء لبَت هذه الاحالة، فلنفرض انّ الامر سيحسم بالتصويت، فخريطة مجلس الوزراء حيال هذه المسألة مقسومة بالتساوي ١٥ وزيراً مع الاحالة، و١٥ وزيراً ضدها، وتعادل الأصوات خلال التصويت معناه سقوط الاحالة. فما معنى الاصرار عليها؟

وامّا القول إنّ الحكومة إذا اجتمعت ستنفجر من الداخل فهو مزحة أكبر؛ فهنا الحل سهل:
- عبر مبادرة رئيس الحكومة إلى دعوة مجلس الوزراء للانعقاد، ووضع الجميع، من دون استثناء أي طرف، أمام مسؤوليتهم، وهنا يفرز المُعطّل عن المُسهّل.
- في الإمكان أن يدعى مجلس الوزراء إلى جلسة عادية، وفي إمكان من يترأسها أكان رئيس الجمهورية او رئيس الحكومة أن يقرر منع النقاش بحادثة قبرشمون في مجلس الوزراء، وتحصر الجلسة بتسيير أمور الناس، فمَن من الوزراء في هذه الحالة سيكسر قرار الرئيس ويخالفه؟ وفي الإمكان هنا أن يستنسخ ما جرى في مجلس النواب حينما منع الرئيس نبيه بري النواب بشكل صارم من أن يقاربوا هذه الحادثة في مداخلاتهم.

بناء على ما تقدم، يقول المسؤول عينه: صرنا في حاجة الى قارئات في الفناجين السياسية، لتنبش في اعماق الازمة وتستأصل ما في خفايا بعض النفوس السياسية، فعندها يمكن أن تتوضح الصورة اكثر، مع أنّ جانباً أساسياً من هذه الصورة واضح لدي، وتؤكده واقعة نَقلها إليّ أحد الموثوق بهم، وتفيد أنه بعد وقوع حادثة قبرشمون بساعات قليلة، قام أحد أشد المتحمّسين للمجلس العدلي بزيارة أحد المسؤولين، فما أن دخل هذا المتحمّس إلى ذلك «الصالون المهيب» حتى بادره المسؤول نفسه قائلاً: «عِلِق وليد»... ومن الطبيعي أن تنفخ هاتان الكلمتان في ساعدي متلقّيهما عضلات لم تكن متوافرة. ويتّضح في خلفيات هاتين الكلمتين أنهما تنطويان على الكثير، وعلى ما قد يجيب عن بعض ما يجري، والغاية الأساسية من التأزيم السياسي الحاصل.

في خلاصة كلام المذكور «أنّ المشهد الداخلي يلامس العبث القاتل في أعصاب البلد وأهله. هذا الشكل من التوترات، والسلوك السياسي الثأري والفوقي، لطالما ترك بصماته السلبية الواضحة على الاقتصاد في السابق. هناك من حرص بعد إقرار الموازنة على القول إنّ مرحلة ما بعد الموازنة تفترض مواكبة حكومية للانجاز، لنستطيع عندها أن نقول انّ «البلد ماشي» وسيقلّع من جديد، ولكن حتى الآن فإنّ الحقيقة الساطعة تفيد عكس ذلك، فـ«البلد مش ماشي»، ولا يحتاج المرء إلى الكثير للحصول على أدلّة بشأنه، ما إن يخرج من منزله إلى الشارع.