الدستور الحالي ساعد على تكريس ودعم سياسة الإقصاء والتهميش لمكونات الشعب بدلا من التسامح وتعزيز هيمنة الأحزاب الإسلامية وأساء استخدام السلطة السياسية والقدرات الاقتصادية مما ساعد على بناء إمبراطورية الفساد الذي دمر حياة المواطنين العراقيين.
 

بلدان العالم الديمقراطي العريقة نظمت دساتيرها لتنظيم شؤون حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل إن بريطانيا كأعظم بلد ديمقراطي في العالم لم تعتمد على دستور مكتوب بل على الأعراف والتقاليد، وهذا يؤكد على الدرجة الراقية للانسجام الاجتماعي وقوة حقوق الفرد لدى الدولة.

أما في العراق فقد وضع الاحتلال الأميركي قواعد للدستور العراقي استنادا إلى موروث الولايات المتحدة بإقامة دولتها من مهاجرين بريطانيين وأوروبيين بعد إزاحة السكان الأصليين (الهنود الحمر) متناسين أن العراقيين هم أصلاء ومركز حضارات البشرية ولا يستحقون هذه الإهانة التي ارتضتها مجموعة السياسيين الذين كان يشغلهم هدف الوصول إلى السلطة.

كتب دستور العراق في ظل احتلال عسكري أميركي مباشر، وكان ينبغي على القوى والأحزاب السياسية التي تحالفت معه وشكل لها مجلس الحكم، ألّا تتعجل بسن وثيقة الدستور لكونه يمثل وثيقة العهد بين الدولة والمجتمع العراقي الذي من العيب أن يستغل تنوعه الطائفي لتكريس الانقسام وإزالة الهوية الوطنية، وألّا تخضع الزعامات جديدة العهد بالحكم لإملاءات إدارة بوش والحاكم (بريمر) الذي أوكل لمستشاره (فيدلمان) بالإشراف على كتابته وهو صاحب النظرية السحرية في تقسيم الشعوب معتقدا بأن المساعدة على وصول قوى الإسلام السياسي إلى الحكم في البلدان العربية والعراق فيها مصلحة للولايات المتحدة وإسرائيل.

كان بالإمكان كتابة دستور مؤقت لفترة انتقالية إلى حين خروج المحتل لتجنب ما حصل فيما بعد. واليوم وبعد خمسة عشر عاما من الأزمات التي خلفها هذا الدستور تصبح فكرة إعادة كتابته أو تعديله ليست سيئة أو خارجة عن مقتضيات ومتطلبات وضع العراق الحالي والمستقبلي بل أصبحت ضرورة لتغيير تدريجي في بنية النظام السياسي المفكك والطائفي ومحاولة مهمة للمحافظة على البلد من التداعايات الأكثر خطورة في ظل ظروف عراقية لم يعد فيها للانقلاب العسكري مثلما كان حلا لمشاكل السلطة.

لكن سياسيي “الإسلام السياسي” الذين حصدوا الكثير من المغانم من ثروات العراق وجدوا في هذا الدستور حماية لمكتسباتهم رغم أنهم يتنصلون عن بعض أحكامه متى ما وجدوها تتعارض مع تلك المصالح. ما كان يهم القادة السياسيين الشيعة والأكراد هو الإسراع قي صفقات تقاسم السلطة وليس وضع أسس لدولة العراق الجديدة، وقد باركوا وصادقوا على جميع البنود الدستورية التي تجاهلت وغيّبت هوية العراق العروبية خلافا لجميع دساتير الدول العربية، ووصف العراق بأنه بلد المكونات الطائفية واكتفت بالإشارة إلى أنه عضو بالجامعة العربية.

وليس غريبا على الأكراد أنهم لا يميلون إلى قيام عراق عربي لاعتقادهم الخاطئ بأن العروبة عنصرية وشوفينية، لكن التساؤل موجه إلى القيادات الشيعية خصوصا أولئك الذين يعتبرون أنفسهم عروبيين حيث لم يكن لهم صوت مؤثر، وكانت الغلبة لمعتنقي الإسلام السياسي الشيعي شاركهم في ذلك الإسلاميون السنة إلى جانب الملتحقين بهم من مجربي التعاطي السياسي من العرب السنة الذين لم تكن لديهم رؤى سياسية واضحة والتزامات جدّية بمشروع جدّي لبناء العراق الجديد.

كان جميعهم مغتبطين بالفرصة الذهبية التي قدمها لهم بريمر ومستعجلين على تقاسم السلطة وتقنينها وفق دستور وضع مقدمات تفتيت العراق طائفيا وإدخاله في طاحونة الأزمات والمشاكل التي أخذت تكبر كلما مرّ وقت الحكم دون وضع أي اعتبار للجمهور العراقي، خصوصا في المناطق الغربية (نينوى والأنبار وصلاح الدين وديالى)، الذي قاطع الاستفتاء على الدستور ولكن تم تجاهله.

وضمن بيئة جني المكاسب وتقاسمها جرت مساومات لا علاقة لها بمصالح الوطن لتمرير الكثير من بنود الدستور ورضخت القيادات الشيعية للإملاءات الكردية في تكريس ما حصلت عليه من حالة شبه الاستقلال منذ عام 1992 وإضافة مكاسب جديدة أبرزها تكريس الحل الفيدرالي لمحافظات خارج إقليم كردستان الذي له خصوصياته القومية إلى درجة إقرار الدستور أحقية أيّ محافظة بقيام إقليم خاص بها على أسس طائفية ويمكن أن تشرّع لنفسها دستورها الخاص، وهو ما يلبي أهداف التقسيم الماكرة.

كما افترضت مشاكل للحدود بين إقليم كردستان ومدن العراق الأخرى وكأن العراق ليس بلدا واحدا إنه “اتحادي” وتم سن مواد لما سمي بالمناطق “المتنازع عليها” خصوصا كركوك الغنية بالنفط وفتحت الأبواب أمام أزمات سياسية كثيرة ما بين إقليم كردستان وبغداد في مجالات توزيع الثروة النفطية إضافة إلى مسألة “الميليشيات” المسلحة.

الدستور نفسه سمح للقيادة الكردية بطلب حق الاستقلال عن العراق، والأكراد الذين كانوا روادا في تمرير الصياغات الدستورية لمصالحهم هم الذين يعترضون عليه اليوم وقدموا 63 مخالفة دستورية فيه.

لقد ساعد الدستور الحالي على تكريس ودعم سياسة الإقصاء والتهميش لمكونات الشعب بدلا من التسامح وتعزيز هيمنة الأحزاب الإسلامية وأساء استخدام السلطة السياسية والقدرات الاقتصادية مما ساعد بناء إمبراطورية الفساد الذي دمر حياة المواطنين العراقيين ومنع عنهم التمتع بخيرات بلدهم التي تذهب إلى جيوب السياسيين من دون حساب أو عقاب.

كما تم تحجيم دور المؤسسة التشريعية الأولى في البلاد (البرلمان) لكي لا تمارس دورها الحقيقي المعبر عن أصوات الناس من خلال ترويج الصفقات المصلحية المالية، وإعاقة أي محاولة جادة للإصلاح.

وغيّبت العدالة في السياسات التنفيذية مما حرم المواطنين غير المنتمين والموالين للأحزاب الإسلامية “الشيعية” من حقوقهم. وثلمت السيادة العراقية عن طريق السماح بالتدخلات الإقليمية والدولية.

لقد أصبحت مهمة إعادة كتابة الدستور العراقي حاجة وطنية كبرى يتحملها الجميع وخصوصا البرلمانيين الوطنيين غير الطائفيين وفي مقدمتهم رئيس البرلمان الحالي إلى جانب السياسيين المخلصين لعراقهم من داخل العملية السياسية وخارجها ومعهم نخب المثقفين والأكاديميين في القانون والقيام بحملة وطنية جادة لتحقيق هذا الهدف لحماية البلد ومستقبل أبنائه، وأن تحمل هذه الدعوة الوطنية إضافة إلى إطارها السياسي الوطني في وحدة العراق ومدنية نظامه واعتباره جزءا من الأمة العربية وتعزيز سيادته وتحريم الطائفية السياسية والمحاصصة في اختيار الرئاسات الثلاث والانتقال إلى النظام الرئاسي ليصبح الاختيار مباشرة من الشعب، وتعزيز قيام مؤسسات الدولة وحصانتها من الفساد وغلق الأبواب أمام محاولات عسكرة المجتمع، وهناك تفاصيل كثيرة حول ذلك لا مجال لذكرها الآن.