الحركة الوطنية الفلسطينية بحاجة إلى وقفة مراجعة نقدية وتأسيسية جديدة، تركز على ما يمكنها عمله، على الأقل على الصعيد الذاتي، وتخفف من مخاطر أو من تبعات التحديات الخارجية.
 

في الجدالات الدائرة منذ سنوات بين الفلسطينيين المشتغلين في الشأن العام، أو في شؤون العمل الوطني، أضحت مسألة الانقسام، بين كياني السلطة في الضفة وغزة، أو بين حركتي فتح وحماس، وكأنها أساس الأزمة الوطنية الفلسطينية، في حين أن تلك الأزمة سابقة على الانقسام، الذي حصل في العام 2007، ما يعني أن التوجه نحو المصالحة والوحدة، على أهميتهما، لا يعني انتهاء تلك الأزمة، بقدر ما يعني التخفيف من تداعياتها وتأثيراتها الداخلية.

أيضا، بعد استعصاء عملية الوحدة، وإخفاق مختلف المحاولات لإنهاء الانقسام بعد توافقات حركتي فتح وحماس في مكة والدوحة وصنعاء وغزة والقاهرة، ذهب البعض إلى اعتبار أن المخرج من الأزمة المذكورة يكمن في التوجه نحو تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة، وحتى إلى انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني، حيث أمكن ذلك، لتجديد الشرعيات الفلسطينية، ولإعادة تفعيل الأطر الوطنية الجمعية، وتعيين التوازنات الجديدة في الحقل السياسي الفلسطيني.

إلا أن هذا التحليل يحتاج بدوره إلى تفحص، ذلك أن التجربة بيّنت أن الانتخابات، رغم أهميتها الحاسمة في رسم التوازنات الناشئة والخضوع لإرادة الشعب، لا تكفي لوحدها لتحقيق الغرض المفترض، وهو ما أكدته التجربة الفلسطينية ذاتها، في نتائج انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، كما شهدنا، إذ أن فتح لم تسلم بنتائج تلك الانتخابات، وحماس ذهبت نحو استخدام القوة لفرض ذاتها كقوة أحادية في قطاع غزة عام 2007، ما نجم عنه انقسام النظام الفلسطيني، ومفاقمة الأزمة الوطنية الفلسطينية، بمعنى أن الانتخابات وهي ممر ضروري بحاجة إلى توافقات ومناخات تفضي إلى النتيجة المتوخاة منها، لا العكس.

بيد أن تلويح الإدارة الأميركية بما يسمى “صفقة القرن”، وترجمتها عمليا بالاعتراف الأميركي بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل، ومحاولتها تصفية قضية اللاجئين، وسكوتها عن الأنشطة الاستيطانية، وتجميدها أنشطة منظمة التحرير، وانصرافها عن دورها في رعاية عملية التسوية، كل تلك التطورات الخطيرة دفعت قطاعا واسعا من الفلسطينيين المهتمين والمعنيين باعتبار أن “صفقة القرن” تلك هي بمثابة أهم تحدّ يواجه الشعب الفلسطيني وقضيته وحركته الوطنية، وكأن الوضع الفلسطيني كان قبل التلويح بتلك الصفقة أو تلك الإجراءات، على ما يرام، أو كأن القدس لم تكن تحت الاحتلال، أو تحت السيطرة الإسرائيلية.

 وتبعا لذلك بات يجري الحديث باعتبار أن من موجبات مواجهة تلك الصفقة – الخطة استعادة وحدة النظام السياسي الفلسطيني، أي توحيد السلطتين، رغم معرفة أن السلطة الفلسطينية هي نتاج اتفاق أوسلو للعام 1993، أي أنها واحدة من أهم أسباب تأزم العملية الوطنية الفلسطينية، نتيجة تحول الكيانات الفلسطينية (المنظمة والفصائل) من كونها حركة تحرر وطني لشعب فلسطين، إلى سلطة في جزء من الأرض لجزء من الشعب مع جزء من حقوق، ومع ملاحظة أن تلك السلطة لم تقم على أساس انتهاء الاحتلال، وإنما في ظل الاحتلال.

القصد مما تقدّم التأكيد بأن التحول غير الطبيعي الحاصل من حركة تحرر إلى سلطة تحت الاحتلال، مع كل ما يتبع ذلك من تغييرات في المفاهيم والكيانات وأشكال العمل هو الأساس في تشكل الأزمة الوطنية الفلسطينية، علما أن تلك الأزمة هي نتاج عوامل أخرى أيضا، أهمها افتقاد الفلسطينيين إلى إقليم موحد، وخضوعهم لأنظمة سياسية وقانونية متباينة ومختلفة، الأمر الذي يخلق مصالح وأولويات مختلفة أيضا، وبين كل تجمع فلسطيني وآخر، في الداخل والخارج، يأتي ضمن ذلك افتقاد تلك الحركة للمأسسة والعلاقات الديمقراطية، ناهيك أن الأزمة ناجمة أيضا عن الفجوة بين الفلسطينيين وإسرائيل في موازين القوى وفي القدرة على استثمار العوامل الإقليمية والدولية، المنحازة لإسرائيل أصلا.

تبعا لذلك الأزمة الوطنية الفلسطينية، هي أكبر وأشمل وأعقد من كل ما تقدم، أي إنها أزمة كيانات استهلكت وتقادمت وتكلست، ولم يعد لديها ما تقدمه على صعيد الأفكار وأشكال العمل والتنظيم، وهي أزمة إخفاق كل الخيارات التي انتهجت طوال نصف قرن، من المقاومة المسلحة إلى التسوية، ومن الانتفاضة إلى المفاوضة، ومن المنظمة إلى السلطة إلى الفصائل.

الفكرة أنه من دون القطيعة مع كل ذلك ستبقى الأزمة الفلسطينية تعيد إنتاج ذاتها، وستبقى الحركة الوطنية الفلسطينية تراوح مكانها. هكذا ومع أهمية الاستنتاج السابق إلا أنه يجب الأخذ في الاعتبار أن مشكلة البدائل في العمل الوطني الفلسطيني بالغة التعقيد، ولا توجد هندسة معينة، أو وصفات ناجزة لها، لعدة أسباب.

أولها أن الشعب الفلسطيني مشتت ومجزأ ويفتقد لإقليم موحد. ثانيا أن الحركة الوطنية الفلسطينية السائدة ترتهن للعون الخارجي، أي أنها لا تعيش على شعبها، بل جزء كبير من شعبها يعيش على العوائد المتأتية من الخارج، والحديث يدور عن ربع مليون موظف أو متفرغ في المنظمة والسلطة والفصائل مع عوائلهم، وهذا أمر بات يشكل قيدا على العمل الوطني، وعائقا أمام أي محاولات للتطوير. ثالثا أن الفلسطينيين يخضعون لسيادات عدة دول، وفي أحوال قانونية متباينة، ما يصعب إمكانية التأطير والتجديد. رابعا باتت الحركة الوطنية الفلسطينية بمثابة نظام من الأنظمة السائدة، سيما بعد أن تحولت من حركة تحرر وطني إلى سلطة.

واضح أن الحركة الوطنية الفلسطينية تواجه تحديات عديدة وخطيرة، منها العضوي والخارجي، الناجم عن موازين القوى والمعطيات العربية والدولية، ومنها الداخلي، أو الذاتي، الناجم عن قصور في الإدارة والقيادة، وواضح أن هذه الحركة بحاجة إلى وقفة مراجعة نقدية وتأسيسية جديدة، تركز على ما يمكنها عمله، على الأقل على الصعيد الذاتي، وتخفف من مخاطر أو من تبعات التحديات الخارجية، وهو الأمر الذي ظلت تلك الحركة عاجزة عنه، أو متهربة منه.