بعد حادث قبر شمون بدا أن الخلاف على جنس المحاكم في لبنان، الذي يتخبط في أزمة سياسية اقتصادية خانقة، أصعب بكثير من قصة الخلاف على جنس الملائكة والنار تشتعل في أسوار القلعة، ولقد سمع اللبنانيون السعداء قبل أيام كلاماً لم يسبق أن قيل في أي من البلدان قطعاً، وربما لم يسمعه أهل سادوم وعمورة:


«الحكومة في حال إضراب عن الاجتماع، بسبب الخلاف على جنس المحاكم»!
الرئيس نبيه بري الذي قال هذا، كان يسخر طبعاً من الوضع الذي وصلت إليه البلاد، وخصوصاً أن كلامه تزامن تقريباً مع اجتماع مالي عقد بدعوة من الرئيس ميشال عون بسبب ما وصل إليه الوضع من الخطورة المتزايدة، وخصوصاً بعد تحذير صندوق النقد الدولي مما ورد في مشروع الموازنة، لجهة دفع مصرف لبنان إلى شراء سندات خزينة بقيمة 11 ألف مليار ليرة لبنانية وبفائدة 1 في المائة وذلك بهدف خفض كلفة الدين العام ألف مليار ليرة!
صندوق النقد حذّر من أن ميزانية البنك المركزي لا يجوز تحميلها هذا العبء الثقيل، وخصوصاً أنه سيكون مطلوباً منه تغطية خروج مليار دولار شهرياً من احتياطاته، وبالمناسبة لطالما ارتفعت الشكوى المحقّة في المصرف المركزي من أن المضي في تحميل المصارف، واستطراداً القطاع الخاص، أثقال الديون التي تتنامى بسبب الفوضى والفساد في القطاع العام الذي تديره الدولة، سيؤدي حتماً في النهاية إلى انهيار الوضع!


وما لا يصدّق أن الخلاف المستشري والمتصاعد على التعيينات والحصص ومن يقررها، ينعكس أيضاً مباشرة على المصرف المركزي، الذي يحتاج إلى تعيين ثلاثة من نواب الحاكم رياض سلامة. صحيح أن سلامة هو الدرع التي تحمي الوضع المالي في لبنان منذ الأزمة العالمية عام 2008، وصحيح أنه سبق لصندوق النقد الدولي ومؤسسات التصنيف الدولية، أن أثنت على براعته وحكمته اللتين حمتا الليرة، رغم كل هذه الفوضى في سياسات المسؤولين، لكن سموم السياسات الساذجة والعمياء، حاولت مراراً تحميله عكس ما فعل ويفعل للحفاظ على الاستقرار النقدي، وليس غريباً في حكومة تذهب إلى الإضراب على حافة انهيار البلد، أن تقفز فوق كل هذه الوقائع وتذهب لتعتمد على دعم المصرف المركزي الذي دعمته سياسات سلامة وزادت من قدرته وودائعه كما هو معروف؟


لكن المسؤولين في لبنان لا يقرأون ولا يعرفون معنى المسؤولية، والدليل الفاقع جداً أن الحكومة لا تتورع عن الذهاب إلى إضراب، فهي لا تجتمع في انتظار مخرج يتم التوصل إليه عبر مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم، الذي يتولى دور الوساطة ومكوك الحايك كما يقال، بين المسؤولين بحثاً عن مخرج، لقصة إحالة حادث قبر شمون والبساتين إلى «المجلس العدلي»، وقبل اكتمال التحقيق، باعتبار أن المطلوب قانوناً هو الاستماع إلى الطرفين قبل اتخاذ قرار التحويل أم لا، وكل ذلك على خلفية مشبوهة وهي أن مجرد أخذ القرار بالإحالة، سيشكل إدانة مسبقة للحزب التقدمي الاشتراكي، رغم أن في أدراج المجلس العدلي عشرات القضايا النائمة منذ زمن بعيد.
قصص وجرائم كثيرة تنام في أدراج «المجلس العدلي»، الذي كانت السياسة تتدخل في أعماله قبل الوصاية السورية وبعدها، وقد يكون من المناسب تعداد بعض من هذه الجرائم المحالة إليه والنائمة عنده، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، واغتيال الصحافي سمير قصير، واغتيال جورج حاوي، ومحاولة اغتيال مروان حمادة، وإلياس المر، ومي شدياق، وجبران تويني، ووليد عيدو، وأنطوان غانم، والعميد فرنسوا الحاج!


في بلاد البشر يذهب المواطنون عادة إلى الإضرابات ضد الحكومات، وفي لبنان بلد العجائب، الكل مضرب، فهناك يومياً عشرات الإضرابات، التي تطرح المطالب الاجتماعية المتفاقمة وتهدد بالتصعيد، لكن من يسمع ومن يعي ومن المسؤول؟!


هذا بلد بلا مسؤولين تقريباً، فالبلد الذي ينهار فيه الاقتصاد وينحدر إلى درك الدولة الفاشلة، ونجد أن الحكومة لا تتردد في أن تذهب هي أيضاً إلى الإضراب في انتظار معرفة «جنس المحاكم»، هو بلد فاشل حتماً، فالوضع الاقتصادي بائس وحركة الإفلاسات متزايدة وفي معظم القطاعات، لكن ليس مهماً إذا أكلت النار أسوار قلعة الخراب، أوَلم يسبق لعون أن شبّه الوضع بسفينة تايتانيك، التي تندفع إلى الأعماق والذين في الداخل يغرقون في الرقص؟ إذن أهلاً بكم في القاع.


قبل أيام قال البطريرك بشارة الراعي إن لبنان يحتاج إلى خطاب سياسي يجمع ولا يفرّق، يسير إلى الأمام ولا يعود إلى الوراء، يبني ولا يهدم، يتعاون ولا يقصي، يأتي بمشاريع اقتصادية وإنمائية ولا يردد كلمات وشعارات دون مضمون سوى التأجيج، فلقد سئم الشعب مناكفات السياسيين على حسابه وحساب تعطيل عمل المؤسسات وعلى أساس قيام دولة العدالة والقانون، وكفى هدماً للدولة ومؤسساتها، لكن هناك بلا ريب من يريد ضمناً هدم الدولة وشلّ عمل مؤسساتها!


لبنان غارق في سلسلة من المآسي التي لا تنتهي، وبات دولة فاشلة تماماً، بدليل أنها لم تتذكر مثلاً، أن هناك سياسيين ومسؤولين، قالت مجلة «لوبسرفاتور» في يناير (كانون الثاني) الماضي، إنهم سرقوا 80 مليار دولار من المال العام، فلم تذهب لجلبهم إلى المجلس العدلي، على ما فعله مثلاً مهاتير محمد في ماليزيا وعلى ما يفعله اليوم المسؤولون في الجزائر، بل وجاءت الموازنة الجديدة لتقترح سداد المليارات المنهوبة، بألف ليرة على نفَس النارجيلة، أو بخمسة آلاف ليرة على صفيحة البنزين وبفرض ضرائب إضافية على الشعب الجائع.


تصوروا بلداً يواجه الإفلاس وحكومته لا تجتمع، لكنك في لبنان، ومن حق القارئ العربي مثلاً، أن يعرف أن من مآثر الحكومات اللبنانية، أن «المسؤولين» اخترعوا ذات يوم ما يسمى «المراسيم الجوّالة»، بمعنى أن القرارات الحكومية كانت ترسل عبر الدراجين العسكريين، إلى بيوت الرؤساء والوزراء المتخاصمين والمتعادين لتوقيعها تباعاً، لأن الحكومة أو بالأحرى الحكومتين الشرقية والغربية تضربان عن الاجتماع!


الأدهى من كل هذا أن الحكومات اللبنانية تحاذر غالباً أن تصل في مناقشة المواضيع والقرارات إلى مبدأ التصويت، الذي انهار نهائياً فيما يسمى «اتفاق الدوحة» الذي فرض بقوة سلاح «حزب الله»، وهذا يعني أن روح النظام السياسي الديمقراطي البرلماني سحقت سحقاً، منذ فرض على البلد بقوة السلاح المبدأ التعطيلي الكامل لما يسمى «الديمقراطية التوافقية».


هذا يعني عملياً أنه لا فرق بين الأكثرية والأقلية، وهو ما أوقع ويوقع البلاد مراراً في الفراغات الرئاسية والحكومية، وفي عدم القدرة على اتخاذ القرارات، لأن التوافق يعني استطراداً الإجماع، وليس من إجماع على أمور الدول والمؤسسات، ولعل من أهم أسباب فشل الجامعة العربية منذ إنشائها أن قراراتها يفترض أن تؤخذ بالإجماع!