ضغط العقوبات الأميركية فضح الإرهاب الإيراني تحديدا في العراق لأنه أعاد النظام السياسي إلى المربع الأول من دون رتوش المظلة الأميركية.
 

يظل العراق محكوما بكرسي سلطة من صناعة الاحتلال الأميركي، بمعنى أن المتغيرات الحاسمة أو العمليات الجراحية الكبرى لإنقاذ العملية السياسية غير متوقعة أو ممكنة لأن المسؤولين عموما بأحزابهم وأيديولوجياتها ينتمون إلى تاريخ شبه موحد ارتهن مستقبله بالخضوع لإرادة أجهزة الاستخبارات المركزية الأميركية ودورها الأممي، ومشروع إيراني كان قد سبق احتلال العراق بعقود في التعبير عمليا عن أهدافه رغم التكاليف الباهظة التي دفعتها الشعوب الإيرانية من خلال مئات المواجهات والمعارك في حرب طويلة استنزفت ثروات ودماء العراقيين أيضا.

سقطة حكام العراق في استقدام الاحتلال من أجل استلام السلطة لن تتيح لهم إعادة بناء الجسور أو ترميمها مع الشعب خاصة بعد 17 سنة من كابوس الانتقام الدموي وتقطيع أوصال العلاقة بالعالم المتمدن أو بالسلم المجتمعي. وما محاولاتهم في لمّ شتات أحزابهم وكتلهم واختيار مواقفهم للإيحاء بتجديد دماء العمل السياسي وتحديد مساراته المقبلة إلا إدراك منهم باستحالة عودتهم حتى إلى المربع الأول الذي كان فيه عار الاحتلال والتخادم معه كافيا ليكون سببا ومبررا لإيقاف تداعيات التواطؤ الصريح بين قوى الاحتلال الأميركي وقوى الإرهاب الإيراني.

أحزاب وتيارات ومجالس ومنظمات ميليشياوية مسلحة كانت، وما زالت، في حالة إنذار قصوى لتزويد نار الفتنة الطائفية بالوقود خدمة للمحتل الغاصب. قوى ارتضت أن تتنعم بما خلفته سرفات الدبابات الأميركية من فتات. ألم يجر تقسيم العراق في مؤتمر لندن لـ”المعارضة” بنظام المحاصصة وبلغة فارسية تفادت، ولو من باب التلميح والمجاملة لبعض العراقيين الحاضرين، ذكر ولو مفردة عن عروبة العراق؟ وذلك ما حصل وتأكد أثناء كتابة الدستور.

ذهاب بعضهم إلى المعارضة لن يجدي نفعا ولن يؤسس للتغيير، والتهام المال العام والركض خلف المناصب وميزانيات الوزارات ومجالس المحافظات لن يبرئا الأحزاب الطائفية من طائفيتها وجرائمها بحق العراقيين مهما قيل عن زهدها ونأيها عن الجاه والسلطة أو قربها والتزامها بأحكام المراجع المذهبية. فكل أساليب الأحزاب الطائفية لن تبتعد بها عن طموحات حزبية لن ترى في الآخرين من يصلح لأداء المهمة الأعلى سقفا والتي بموجبها سارت في ركب المحتل الأميركي رغم أن قيادات بعض أحزابهم لم تحضر مؤتمر لندن، لكنها التحقت لتكون رأس الرمح لتأسيس قواعد الانتقام من العراقيين إرضاء لولاية الفقيه.

أحزاب إيرانية بكل ما في الانتماء من معنى لمشروع تدمير العراق وترسيخ حقيقة “العناصر المؤمنة بالثورة الإيرانية” التي تحدث عنها المرشد علي خامنئي مؤخرا، والمستعدة لأداء واجب الدفاع عن نظامه وتنفيذ أوامره ضد الشيطان الأكبر وحلفائه، رغم أن عناصره المؤمنة سبق وأن أدت مهامها في مساعدة ذات الشيطان لاحتلال العراق.

أسلوب الصدمة والترويع الذي اتبعه تنظيم داعش الإرهابي يبدو بدائيا مع ما توفرت له من فرص التدريب التقني والإعلامي، لكن أسلوب الميليشيات يطبع عملياته وجرائمه العشوائية المعلنة والموثقة والتي لم تتعرض أبدا، لا في العمليات ولا الخطب المسربة من زعاماته، إلى مناهج العدوان الإيراني، بل كانت تصب في صالح إنضاج التناقضات لمزيد من الاشتباك والتعقيد في أهداف الأطراف الدولية بما يمنع الاستقرار والأمن.

كان ذلك في صميم المطالب الاستراتيجية لولاية الفقيه باعتبار الإرهاب ضمانة لتحشيد الميليشيات، ومن جهة أخرى ضمانة للتدخل الأجنبي الذي هو الآخر في النتائج يقدم لمطبخ الإرهاب الإيراني كل مستلزمات البقاء والتمدد في الفتاوى وتجهيزات الأسلحة والتدريب والتجاوزات المحمية بالإعلام والسلطة وكتل سياسية نافذة في البرلمان.

أسلوب الصدمة والترويع تقاذفه النظام الإيراني مبكرا بإقدام أحزابه ومنظماته التي تبنت بفخر المفخخات والعبوات الناسفة والتفجيرات في العراق سنوات الثمانينات من القرن الماضي، أما بعد الاحتلال الأميركي في أبريل 2003 فقد انفتح المشهد على إرهاب سلطة كالتي في إيران مضاف إليه ضياع أبسط القيم من خلال قوائم الاغتيال ومحاسبة الرموز التاريخية، إلى التهديد القسري والاغتصاب، ومعتقلات لا تضاهيها سوى محاصصة التعذيب والإساءة بين القوات الأميركية في سجون الاحتلال ومعتقلات دولة الميليشيات التي مازالت دون رقابة أو ملاحقة أو عقاب.

إجلاء الموظفين من السفارة الأميركية في بغداد، اعتراف ضمني لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعدم قدرتها على إحداث التوازن المطلوب في إدارة مقادير حكم العراق بسلطة تبتعد عن المشروع الإيراني قياسا إلى مصالحه الوطنية أو قياسا إلى خلفية، تفترضها الولايات المتحدة، ما قدمته من سلطة جاهزة لهؤلاء الذين جاءت بهم وهي أدرى بميولهم وخصائص تكوينهم العقائدي والأيديولوجي والنفسي الذي استغلته ولاية الفقيه لإنجاز مهمة الصدمة والترويع ضد شعب العراق وهي تقصد إيصال أصداء رسائلها إلى العرب، وقد فعلت وتمادت وأوغلت.

ضغط العقوبات الأميركية فضح الإرهاب الإيراني تحديدا في العراق لأنه أعاد النظام السياسي إلى المربع الأول من دون رتوش المظلة الأميركية، وهذا يفسر لنا التخبط في خلط أوراق الأحزاب الإيرانية بين ولاءاتها وجذورها وحجم دورها السياسي والميليشياوي وتشبثها بتحصين مكتسبات الاحتلال حد الاحتراب والتدافع بين التنظيمات والشخصيات، وهو ما يعطي الفرصة للتساؤل عن مدى الترهيب المتعمد للعراقيين وعن دور شعب العراق في ردم المستنقع الإيراني لتتعافى بلاده، فالعراق كما يخبرنا التاريخ والواقع عندما يتعافى تتعافى معه أمة العرب.