الرأي أن يذهب العرب باتجاه التفاوض مع إيران بصفتهم متن المنطقة ويمسكون مفتاح نجاح أو فشل أي اتفاق مقبل قد تبرمه عواصم بعيدة مع طهران.
 

لا أحد في العالم يريد حربا ضد إيران. لا تريد الصين وروسيا هذه الحرب من موقع الحليف، ولا تريد أوروبا هذه الحرب من موقع الشريك، ولا تريد الولايات المتحدة هذه الحرب من موقع أن الهدف الأساسي لواشنطن هو جرّ طهران نحو طاولة التفاوض.

الحرب مستبعدة. حتى في الولايات المتحدة لم نلحظ جهداً حقيقيا لشيطنة إيران أمام الرأي العام الداخلي كما تمت شيطنة عراق-صدام، وأفغانستان-طالبان، ويوغسلافيا-ميلوسفيتش، وليبيا-القذافي من قبل. وفيما توفر لـ”غزوات” واشنطن السابقة دعم دولي، ولو جزئي أحياناً، فإن لا خطط لـ”غزوة” أميركية لإيران، ولا تسعى الولايات المتحدة لاستدراج دعم دولي لحربها المحتملة ضد إيران.

ترامب لا يريد الحرب. يقولها ويرددها ويمقت احتمالها. في دفتر الصفقات الذي يجيد صفّ بنوده لا مكان للصدام الكبير. لم يفعل ذلك مع كوريا الشمالية ويروح ينتشي فرحاً كلما التقى بزعيمها كيم جونغ أون، وهو يمنّي النفس بلقاء مع “أي مسؤول” إيراني، وفق قوله، باعتباره إنجازاً يمحضه مزيداً من الدعم للاحتفاظ بالبيت الأبيض لولاية ثانية.

الكلام كلام تفاوض. لم تعد الولايات المتحدة تلوّح بالقوة الجبارة أو بالضربات الموضعية. ولم تعد إيران تهوّل بسحق المواقع الأميركية وتهدد بمعاقبة العالم أجمع وحرمانه من الملاحة في مضيق هرمز. والواضح أن وساطة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لا تولد من عدم، بل تأتي لتستكمل وساطات، يابانية عمانية ألمانية بريطانية سويسرية، سابقة. والواضح أيضاً أن هذه الوساطة، وربما أي وساطة محتملة لاحقة، تناقش سبل جرّ الطرفين إلى التفاوض وفق قواعد وشروط تحفظ ماء وجههما.

تتحدث إيران نفسها كثيراً عن المفاوضات. لا شك أن صراعاً داخلياً يجري داخل نظام الجمهورية الإسلامية حول مسألة الحرام والحلال في مسألة التفاوض. وربما أن الوساطة الفرنسية متقدمة ومقلقة لتيار في الحكم هناك متضرر من أي تسوية جديدة، ما يفسّر اعتقال طهران لباحثة فرنسية من أصول إيرانية. سيؤدي الذهاب إلى التفاوض حكماً في نهاياته إلى تغير ما في طبيعة النظام، ما يعني إضعاف فريق ما لصالح فريق ما.

ليس مهماً الانشغال بمسألة الشروط التي تضعها إيران للذهاب إلى المفاوضات، بل بالتحوّل الكبير في الخطاب الإيراني في مسألة التفاوض في الأيام الأخيرة. يقر الرئيس الإيراني حسن روحاني أن بلاده تمر بـ”ظروف صعبة” ويعلن أن إيران مستعدة للذهاب “فورا” إلى المفاوضات شرط أن ترفع واشنطن عقوباتها كاملة عن إيران. أكثر من ذلك، يذهب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى الاعتراف بأن برنامج إيران للصواريخ الباليستية قد يكون ملفاً قابلاً للتفاوض مع الولايات المتحدة، شرط أن ترفع واشنطن العقوبات ضد بلاده.

قد يقول قائل إنها مناورات إيرانية رتيبة سمجة. لا تملك طهران هامشا رحبا للمناورة، ويكاد من تصريحات مسؤوليها، بما فيهم تلك الصقورية منها، يتسرب حجم المعاناة الذي بات يثقل كاهل البلد ويربك قيادته. تذهب طهران للتلويح بتخلّ تدريجي عن التزاماتها ورفع مخزون ونسب تخصيب اليورانيوم، وهي في ذلك تلوّح بما يمكن أن تتنازل عنه مقابل تنازل نسبي يخفف من عقوبات واشنطن ضدها.

حين أعلن ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي في مايو 2018، جاءت شروط وزير خارجيته مايك بومبيو بعد ذلك لتضع قواعد للاتفاق الذي تنشده واشنطن مع طهران.

كان رد إيران، بمرشدها ورئيسها وحرسها، أن لا عودة إلى التفاوض على اتفاق نووي تم التفاوض طويلا بشأنه وإبرامه عام 2015. وأن لا مفاوضات حول برنامج إيران للصواريخ الباليستية، ولا مفاوضات بشأن سلوك إيران ونفوذها في الشرق الأوسط.

قبل أيام فقط جاء في طهران من يتحدث عن مفاوضات تطال “النووي” و”الصاروخي”، وقد يأتي لاحقاً من يطرح التفاوض حول سلوك إيران ونفوذها المخرّب في المنطقة.

يكرر وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد في أكثر من مناسبة وعاصمة مؤخرا التأكيد على أن أي اتفاق مستقبلي مع إيران يجب أن يشمل دول المنطقة، بحيث تكون طرفا فيه. يغمز الوزير الإماراتي في ذلك من قناة اتفاق فيينا بين إيران ومجموعة الـ5+1، والذي لم يلحظ حق دول المنطقة في أن تكون شريكا في تسويات تطال أمنها واستقرارها ومستقبلها.

وعلى هذا ماذا تنتظر تلك الدول لكي تبادر لفرض آليات تفاوض مع إيران، بدل انتظار مسار ومصير الآليات التي تقدمها دول العالم البعيد لحلّ النزاع الحالي مع طهران؟

يردد ظريف لازمة مملة يدعو فيها إلى حوار مع دول الخليج وإبرام معاهدة عدم اعتداء معها. ويعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، في آخر تصريحات له، أن إيران منفتحة على الحوار مع السعودية.

وبغضّ النظر عن جدية طهران في طرح هذه المسائل، وأيا كانت مراميها “الحنونة” في الزعم باحترام الجيرة والحرص على الشراكة معها، فإن على أهل المنطقة أن لا يكونوا خارج هذه اللحظة التاريخية أو هامشا لها.

تتوفر للمنطقة، لاسيما للدول المتضررة مباشرة من السلوك الإيراني خلال الأربعة عقود من عمر الجمهورية الإسلامية، فرصة تاريخية لبسط مائدة حوار وتفاوض مع إيران على قاعدة الوضع الراهن وشروط العقوبات “التاريخية” التي تفرضها واشنطن على طهران.

تتأسس المواجهة الأميركية لإيران على قاعدة أن الدول الحليفة للولايات المتحدة، لاسيما تلك التي في الخليج، داعمة للموقف الأميركي ومساندة له. وفي هذا أن المتن أميركي والهامش خليجي عربي، وأن أي تسوية بين واشنطن وطهران، ستجعل من أصحاب الاتفاق متنا ومن الهامش فيه هامشا.

والرأي أن يذهب العرب باتجاه التفاوض مع إيران بصفتهم متن المنطقة ويمسكون مفتاح نجاح أو فشل أي اتفاق مقبل قد تبرمه عواصم بعيدة مع طهران. وأن يذهبوا إلى التفاوض غير معنيين بالحيثيات الثنائية الأميركية الإيرانية التي أدت إلى انفجار الأزمة بين البلدين، والتي قد تبددها حيثيات ثنائية أخرى، بل مستفيدين من حجم الضغوط الممارسة على إيران، سواء بنسخة العقوبات الأميركية، أو بنسخة عجز شركاء الاتفاق النووي جميعا، بما في ذلك روسيا والصين الحليفين، عن إنقاذ إيران واتفاقها الشهير.

ستستقوي إيران بأي كلام عن التفاوض مع السعودية ودول الخليج باعتباره يمثل تشققا في جدار تحالف هذه البلدان مع الولايات المتحدة. لا يهم ما ستسوقه إيران وتتبجح به من ضمن خطاب شعبوي بات صعب التسويق حتى داخل إيران نفسها. سيستقوي الخليجيون والعرب بالموقف الأميركي الدولي الحالي الضاغط لفرض قواعد جيواستراتيجية في المنطقة لا يبدو أن إيران قادرة هذه المرة على تجاوز حقائقها.

إيران ونظامها حقيقتان في الجغرافيا والسياسة. لا أحد في العالم يخطط لإزالة هذه الجغرافيا ولا أحد، حتى في الولايات المتحدة وإسرائيل، يخطط أو يملك سيناريو لقلب نظام الحكم السياسي في هذا البلد. وإذا ما تحدثنا عن الجغرافيا فهي تعنينا، نحن أهل المنطقة، أكثر مما تعني العواصم البعيدة، وإذا ما تكلمنا عن السياسة، فإن مواجهتها لا تتم، وفق ما نعرفه حتى الآن إلا بالسياسة.

لا نتفاوض بالضرورة كي نتفق. ولا نتفاوض كي نذعن أو نقبل بالأمر الواقع. ولا خطأ في الانخراط في آلية للكلام المباشر والصريح بدل الاكتفاء بسياسة الحرد والمقاطعة والردح المتبادل.

لا يجري التفاوض إلا بين الخصوم. وإن ذهب الخليجيون والعرب إلى التفاوض فذلك أنها خصم يتسرب من خلال شقوق الانقسام في جدران المنطقة. فإذا ما كان من رغبة ليكونوا جزءا من الاتفاق المقبل مع إيران، فحري أن يجلسوا في المقاعد الأمامية رقما صعبا لأي تفاوض أو أي تسوية ترسم مع الكبار.

لست من المؤمنين بأن هذا النظام في إيران ناضج من أجل حوار مع الجيران، ولا أوهام عندي حول الأمر. بيد أن على المنطقة استعادة زمام المبادرة وفرض فعل يضطر إيران إلى رد الفعل وليس العكس.