هي المرّة الأولى التي يبدو فيها أحد كبار السياسيين على هذا القدر العالي من التشاؤم. هذا الاستنتاج عبّر عنه في حلقة ضيّقة جمعته ببعض الاصدقاء، وكانت اشبه بجلسة مصارحة قرّر فيها أن يغادر التحفظ والكلام المُجمَّل، فأخرج من مكنونه كلاماً بلا قفازات. وشرَع في الضرب تحت الزنار وفي كل الاتجاهات.
 

هي المرّة الأولى التي يبدو فيها أحد كبار السياسيين على هذا القدر العالي من التشاؤم. هذا الاستنتاج عبّر عنه في حلقة ضيّقة جمعته ببعض الاصدقاء، وكانت اشبه بجلسة مصارحة قرّر فيها أن يغادر التحفظ والكلام المُجمَّل، فأخرج من مكنونه كلاماً بلا قفازات. وشرَع في الضرب تحت الزنار وفي كل الاتجاهات.
بداية الكلام حملت نعياً لمفردة التفاؤل: «لقد اصبحت كلمة «ممجوجة» وبلا اي معنى، وانا شخصياً أعاني فقدان الشعور بالتفاؤل، وهذا امر طبيعي جداً أمام ما نحن فيه، فصدقوني لا أرى امامي سوى مشهد قاتم، يميل يوماً بعد يوم الى السواد اكثر فأكثر، وأخشى أن اقول إننا صرنا قاب قوسين او ادنى من العتمة الدامسة».

اكثر ما يؤلم، كما يقول، «ليس واقعنا الصعب، بل الصورة الحقيقية لوضعنا، التي يراها الخارج بوضوح بكل مراراتها وعوراتها وعوراتنا، وبعضنا يختبئ خلف اصبعه او يدفن رأسه في الرمال ظناً منه انّ احداً لا يراه. هذه الصورة عرضها لي احد السفراء الاوروبيين، وقال لي من موقع الصديق للبنان «بلدكم مريض ومتعب، يدمّر ذاته بذاته، واسمح لي ان اصارحك وأقول، لا أحد يجيد افضل من اللبنانيين عملية تدمير الذات».

ويضيف: «كلام السفير مُحرج، بل يدفع الى الخجل، ويجعل من يسمعه يرشح عرقاً بارداً، لقد نزل عليّ هذا الكلام وكأنّني تناولت ملعقة كبيرة من الفلفل الحارق على الريق، تعجز بعدها عن الكلام، فماذا تستطيع ان تقول؟ وكيف تبرّر؟ فالسفير لم يكن مخطئاً ولا متجنياً، بل قدّم اصدق توصيف لواقعنا. كدت للحظة انشر غسيلنا الوسخ واقول له معك حق، بلدنا معطل بفعل فاعل، والفاعل بالتأكيد من اهله؛ مجموعة رؤوس حامية تعتلي اجساد مرضى الانتقام والكيد السياسي والمزايدة، وأسرى منطق يتبنّى شعارات مريضة أو في أحسن الاحوال متهورة. 

الخارج لا يثق بنا، يقول المسؤول، بل ويتهمنا، ومع ذلك يمنحنا الفرص ويقول لنا انتبهوا فقد يضيع «سيدر» وغير «سيدر»، وقد تجدون انفسكم في اي لحظة، تطرقون باب اليونان، وأما نحن فنظن انفسنا محور الكون، ونتبرّأ من التهمة، ونكابر بطريقة فجّة تجعلنا محلّ سخرية العالم كلّه، واما الداخل فكفر بنا وسلّم أمره الى الله. أمام هذا الواقع انا لست متشائماً فحسب، بل أشعر بالخوف، لأنّ الخطر لم يعد على الابواب، بل تخطّاها واصبح في قلب الدار. 

ويستدرك قائلاً: قال لي أحد الظرفاء جملة معبّرة عن حال الناس: «اكثر صناعة ماشية في هذه الأيام هي صناعة حقائب السفر»، طبعاً الناس معها حق، لأنّها فقدت الأمل في دولة هشّة ولا تزال حيّة بالصدفة، تعيش زمناً اضافياً بلا اي معنى في وقت ضائع، يوشك رصيدها ان ينتهي، وتكاد تصبح فاقدة صلاحية الاستمرار؛ مؤسساتها مشلولة، سلطاتها معطلة، إدارتها «مكربجة»، أمنها مفقود، أمانها مسلوب، اقتصادها يلفظ انفاسه، وناسها اصبحت أهدافاً بشرية لا تعرف من اين ستأتيها الضربة. 

والطامة الكبرى، انّ المتربعين على عرش الأمر والنهي في هذه الدولة، كما يراهم المسؤول عينه، بعضهم مصاب بـ«الطرش»، وبعضهم الآخر يحاول ان يوقف نبضها أو ما تبقّى منه، يرقصون كالهنود الحمر حول نار معاركهم في ساحات مصالحهم، وفي تذخير العصبيات وذهنيات الـ«انا» والتحكّم والامساك بكل شيء، ويتعامون عن مسار الانحدار السريع الذي يوشك أن يرتطم بقعر الهاوية، وعن عدّاد الدين العام «الشغال 24 على 24» بأقصى حيويته ونشاطه، يسجّل، ويسجّل، ويسجّل، ويراكم أرقاماً فوق أرقام وفوائد فوق فوائد.

هذه هي صورة ازمتنا السياسية، كما يشخّصها المسؤول المذكور، التي تبدو معالجتها وتفكيك عِقَدها، ضرباً من المستحيل. فالعلاقة بين الرئاسات غير ثابتة، و«النقزة» من بعضهم البعض تشكّل نقطة التقاطع المشتركة في ما بينها، والقوى السياسية التي تسبح في بحر هذه الرئاسات لا يثق بعضها ببعض، وبعضها يريد ان يسود وحيداً، وان يلغي او يبتلع البعض الآخر. 

آخر فصول هذه الأزمة، كما يضيف، حادثة قبرشمون، وما خلّفته من تداعيات، جعلت هذا الفصل الأكثر تعقيداً من كل ما سبقه، وتحوطه اسئلة لم تصل الى جواب يعبّر حقيقة عمّا جرى، ولأيّ سبب، ولأي هدف، ويحدّد من هو الظالم، ومن هو المظلوم، والأهم من ذلك، يوضح سبب شلّ الحكومة وتعطيلها، في وقت أنّ حادثة كهذه تتطلب حضوراً للحكومة طارئاً وفاعلاً واستئنائياً لاحتوائها وتدارك تداعياتها، وليس كما بدا انه تهرّب من المسؤولية والتذرّع انّ اجتماع الحكومة في ظلّ هذا الجو سيفجّرها. «فيا اخوان الحكومات بتروح وبتجي، لكن البلد لما بروح ببطل يجي، فألف مرة تطير الحكومات ولا يهتز البلد ولو مرة».

وطالما اننا بصدد الحديث عن حادثة قبرشمون، يقول هذا المسؤول، الصورة تتجاذبها مشاهد متناقضة، يُقال انّ وليد جنبلاط بدأ يشعر بأنه مأزوم ومحشور، كذلك يُقال إنّ جنبلاط استفاد مما جرى وحصد التفافاً درزياً كبيراً حوله، ولن يتراخى امام طلال ارسلان وطلبه إحالة الملف الى المجلس العدلي، وعلى الضفة الثانية يقال إنّ المير طلال، صعد الى اعلى الشجرة ويريد النزول عنها ولا يستطيع ذلك، ويُقال أيضاً إنّ المير يشعر الآن بأنّ الهواء في شراعه ولن يتراجع عن موقفه، فهو في الاساس مغطّى من قبل فريق رئيس الجمهورية، فكيف الآن بعد الكلام الاخير للامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله؟ 
لنكن صريحين، يقول المسؤول، المشكلة في الشكل درزية - درزية، واذا كان هناك من يصبّ الزيت على نارها، فسيأتي اليوم الذي تصل فيها الى حل توافقي بين الجناحين الدرزيين، عاجلاً فآجلاً، تمليه الخصوصية الدرزية ووحدة الطائفة، علماً أنّ حالات خلافية سابقة بينهما ارتفعت الى سقوف عالية، لكنها عادت في نهاية الامر وحطّت على ارض التفاهم. 

إلّا انّ هذه المشكلة في عمقها، والكلام للمسؤول عينه، درزية - مسيحية، لها امتدادات سياسية، بالنظر الى التغطية المباشرة لارسلان ضد جنبلاط من قبل التيار الوطني الحر وفريق رئيس الجمهورية. انا لا ارى سبيلاً الى الحل، لكن احدهم طرح امامي حلاً، له طريقان: الأول، ان يبادر رئيس الجمهورية الى عقد لقاء مصالحة في قصر بعبدا، منصفاً للجميع ولا يضيع دماء الضحايا، والثاني، أن يبادر وليد جنبلاط الى رفع سماعة هاتفه ويقول لمتلقيه: ألو جبران .. معك وليد».