فتحت حادثة قبرشمون الباب أمام الحديث عن الخصوصيّات المناطقيّة بين رافض لها ومتحدث عن حق كل مواطن أو سياسي في زيارة المنطقة التي يريد، وبين مؤيّد للخصوصيّة إنما من دون أن يجاهر بذلك، وبالتالي يُعلِن خلافاً لما يُضمِر.
 

ينصّ البند (ط) من مقدمة الدستور اللبناني على أنّ «أرض لبنان واحدة لكل اللبنانيين، فلكل لبناني الحق في الإقامة على أي جزء منها والتمتع به في ظل سيادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين».

هذا في المبدأ، وهو صحيح ويجب أن تكون الأمور كذلك، لكنّ الواقع مختلف تماماً ربطاً بالعامل الديموغرافي الذي أفرز أكثريات من طائفة معينة في كل منطقة، وأي أكثرية تفرض تلقائياً لونها السياسي، وهذا المعطى لا يواجَه بتحدي إرادة الناس في هذه المنطقة أو تلك، إنما لمواجهته يجب الدفع لقيام الدولة الفعلية في لبنان التي يشعر معها المواطن بأنّ حمايته مؤمّنة من خلالها، وليس من خلال الجماعة التي ينتمي إليها، كذلك شعور الجماعة بأنها ليست مستهدفة من جماعة أخرى. 

ويجب الإقرار أنّ الشعور بالإطمئنان غير موجود، وأنّ النظرة إلى الدولة تكمن في أنّها ما زالت عاجزة، ومصدر الحماية الفعلي ما زال الأحزاب الممثلة لجماعاتها، ويستحيل تجاوز هذا الواقع قبل أن تتحول الدولة الضمان وليس أحزاب الجماعات، الأمر المتعذِّر قبل تسليم «حزب الله» سلاحه للدولة، وقيام الدولة التي تحكم على أساس القانون والعدل والمساواة.

وهذا الهدف لا يتحقق بالتراكم، بل بالضربة القاضية، أي إمّا تكون هيبة الدولة على الجميع أو لا تكون، فلا استثناءات على هذا المستوى، ولا نتكلم على تجاوزات فردية ومخالفات للقانون لا يمكن تغطيتها، إنما الحديث عن الشعور العام بالارتياح من عدمه، وهذا الشعور غير موجود حقيقة لدى أي طائفة في لبنان على رغم مرور نحو ثلاثة عقود على انتهاء الحرب اللبنانية، والسبب استمرار الحرب بالوسائل السياسية.

فالجماعة المسيحية كانت تشعر بالاستهداف بين عامي ١٩٩٠ و٢٠٠٥، فيما كل الجماعات لديها الشعور نفسه اليوم بأنها مستهدفة. وقبل تبديد هذا الشعور، الذي لا يبدّد سوى بقيام الدولة، عبثاً المحاولة. والأخطر محاولة تحدي إرادة الناس في منطقة على خلفيّة إستقوائية، ومسايرة إرادة الناس في منطقة أخرى على خلفية إنهزامية، الأمر الذي يولِّد مزيداً من الاحتقان والتشنج، فلا يجوز مثلاً مسايرة الشيعة خوفاً من «حزب الله»، ومواجهة الدروز لأنهم «ما بيخَوّفوا» أو تحقيقاً لأجندة معينة.

ففي جبل لبنان الجنوبي نستذكِر الحرب و»البطولات والأمجاد»، وعشيّة الزيارة إلى الجنوب نستذكِر الإمام المغيّب موسى الصدر وننظِّم أبياتاً من الشعر لـ»حزب الله» ودوره وسلاحه ومقاومته. وهذا إن دلّ على شيء، فعلى استنسابيّة سياسيّة تمدح الطرف الذي تخاف منه، وتهجو الطرف الذي تخطط لاستهدافه.

ويستحيل بناء دولة في ظل ذهنيّة من هذا النوع، أي ذهنيّة الخضوع للقوي والاستقواء على من يُظنّ أنه ضعيف، وخطورة ممارسة من هذا النوع أنها تهيّئ مناخات الحرب وتبقي حالة التوتر وتقوّي حالة الانفصال عن الدولة بدلاً من الاندماج في هذه الدولة.

وعلى رغم الاختلاط القائم في جبل لبنان الجنوبي، إلّا أنّ الطائفة الدرزية هي طائفة مؤسسة ومكوّنة للبنان، ولا يجوز أن يكون للطوائف المسيحية والسنيّة والشيعية امتدادها الحيوي وكلمتها الفصل داخل مناطقها، فيما الطائفة الدرزية المحصورة جغرافياً ضمن بقعة معينة لا كلمة فصل لها فيها، فما ينطبق على المسيحيين والشيعة والسُنّة يجب أن ينسحب على الموحدين الدروز، وعدم إشعارهم بأنهم مهددون وجودياً داخل المساحة الجغرافيّة الصغرى التي تجمعهم.
وهذا لا يعني ذميّة سياسيّة ولا طبقيّة ولا تغييباً للشراكة، إنما مساواة بين الطوائف المؤسسة للكيان اللبناني، فلا يجوز أن يشعر المسيحي بين جزين وبشري بأنه المقرّر لمصيره، وأن يشعر الشيعي بين الجنوب والبقاع بأنه الآمر الناهي، وأن يشعر السني في صيدا وبيروت وطرابلس وعكار بأنّ كلمة الفصل له، وأن لا يشعر الدرزي الشعور نفسه بين عاليه والشوف. ومهمّة المسيحي أن يشكّل عامل ارتياح للدرزي في هذه المساحة لا عامل تهديد، وهذا لا ينتقص إطلاقاً من الشراكة. 

وفي انتظار قيام الدولة الكفيلة بتحقيق المساواة بين الأفراد والجماعات على مساحة الجغرافيا اللبنانية، يجب تجنّب الاستفزاز، والانكباب على قراءة التاريخ تجنّباً لخطايا لا تغتفر، لأنّ الموحدين على استعداد للدخول في حرب حتى آخر درزي دفاعاً عن كرامتهم ووجودهم وحضورهم التاريخي، ولا نعتقد أنّ أحداً يريد إحياء الحرب، ولا نعتقد انّ أحداً في وارد المغامرة بلبنان وعيشه المشترك. 

وفي انتظار تعزيز مبدأ الاختلاط داخل المناطق اللبنانية بما يسقط اللون الواحد عليها، والاختلاط المقصود أن يكون وازناً لا شكلياً، فتنشأ تلقائياً تعدديّة سياسيّة كانعكاس طبيعي للتعددية الطائفية، يجب الحفاظ على الخصوصيات القائمة والتعامل معها كغنى لا «غيتوات»، والتسليم بمبدأ أنّ إدارة التعايش تتطلب الذكاء والحكمة، وليس التهور والتحدي.

و يجب أن لا يسهى عن بال أحد أنّ لبنان وطن مركّب، وفي الأوطان المركبة تصبح المعادلات مركبة لا تبسيطية. مثلاً يجب المزاوجة بين حق الفرد وحق الجماعة، وهذه مسألة معقّدة لا تبسيطية، والأمر نفسه ينسحب على المزاوجة بين أنّ أرض لبنان واحدة لجميع اللبنانيين، وبين الخصوصية المناطقيّة، فلا ينبغي على الأولى أن تلغي الثانية، ولا أن تتحول الخصوصية منطقة مقفلة...