مرّة جديدة تتأكّد هشاشة التسويات في لبنان. فاهتزاز الأمن في الجبل كشف الكثير من مكامن الضعف التي تجعل البلاد مشرّعة أمام رياح داخلية بدأت تتكوّن مع اقتراب منتصف العهد، في ظل طموحات رئاسية مبكرة بكل ما تحمله من «استفزازات» تثير حنق البعض... وأيضاً في ظل شعور بـ»الغبن»، لم يعد يخفيه من اضطروا مكرهين الى الاستسلام أمام «التسوية الرئاسية» الحالية.
 

لكنّ الرياح الداخلية ليست وحدها ما يتهدّد لبنان، الذي يقف على حافة الهاوية الاقتصادية. فالأعاصير الإقليمية تتكوّن بالفعل، وطبول الحرب تقرع على امتداد الشرق الأوسط، والاحتمالات تتفاوت بين سيناريوهات حربية مباشرة أو مواجهات غير مباشرة أفضلها كارثي على لبنان.

في هذا الجو الملبّد، ثمة شعور عام في لبنان بأنّ الأفق مسدود، فما جرى في الجبل أمنياً، وما أعقبه سياسياً، لا يبشّر.

وإذا كان «القطوع» الأمني مرّ، بفضل بعض الجهود، فإنّ التداعيات السياسية تتراكم، ولا يبدو أنّها ستقتصر على الحرب الكلامية، وتعطّل جلسات مجلس الوزراء، بكل ما يعنيه كل يوم «شلل» من كارثة على الاقتصاد المهترئ، الذي يُجمع المراقبون على حاجته إلى «صدمات إيجابية» وليس «ضربات تحت الحزام» بين «شركاء» إفقار البلاد.

ما وصل إليه اشتباك الجبل يتجاوز، في حيثياته، النيات الطيّبة الساعية إلى احتوائه، كتلك التي جعلت اللواء عباس ابراهيم يمارس مهارات «الوساطة» بين المتناحرين، أو التي قادت رئيس مجلس النواب إلى زيارة القصر الرئاسي في بعبدا بكل ما تحمله هذه الزيارة من رمزية استشعار الخطر.

فالنيات الطيبة لا تكفي، خصوصاً إذا ما كانت عوامل التشويش والتحريض والاستفزاز أعلى صوتاً، وثمة في المشهد ما يشي بأنّ التصعيد سيستمر، حتى وإن نجحت الوساطات في التوصل إلى علاجات موضعية لما جرى، ذلك أنّ الطموحات السياسية الضيّقة تعلو فوق أيّة مصلحة وطنية.

هذه الصورة السوداوية، تظهّرها سلسلة المواقف والرسائل التي تتسيّد المشهد السياسي، يقرأ البعض في خلفيتها رغبة جامحة في بناء جبهتين متقابلتين استعداداً للمعركة الرئاسية المقبلة، وإعادة خلط أوراق التسوية الرئاسية الحالية، ينخرط في الاولى جبران باسيل ومن هم معه، وينخرط في الثانية وليد جنبلاط وسمير جعجع وسائر الرافضين وصول باسيل إلى رئاسة الجمهورية.

هناك من يقول إنّ الرئاسة هي الهدف الأول والاخير لباسيل، وانّه على طريق تحقيق هذا الهدف لن يألو جهداً لتحقيق زعامة سياسية على الطراز «الماروني» المعروف، في وقت لا يلوح في الأفق أيّ مؤشر الى احتمال تراجعه، ذلك أنّ التراجع بالنسبة إليه يعني تعثّر مسيرته الرئاسية، بعدما وضع سقف تحدّيه عند مسار تصاعدي، لن ينخفض على ما يبدو إلا بانتصار سياسي واضح، اي وصوله إلى قصر بعبدا، أو بهزيمة سياسية مدوّية، في حال تسببت مواقفه المثيرة للجدل بفقدانه اقرب الحلفاء.

بالتأكيد، يضيف أصحاب هذا الكلام، أنّ باسيل يدرك وفق منطق الامور، أن لا شيء ثابتاً في اللعبة السياسية المحلية، فما تسمّى»كلمة السر» باتت تقليداً في كل استحقاق انتخابي، وهو برغم الصلابة التي يبديها في الظاهر، إلّا أنّ ثمة شعوراً مؤكّداً لديه بأنّ طموحاته السياسية تسير على رمال متحرّكة، لا يمكن من خلالها التوقف، خصوصاً أنّ ثمة منافسين سياسيين وغير سياسيين محتملين في معركة الرئاسة تتردّد أسماؤهم بالفعل في الصالونات السياسية والدبلوماسية.

وبحسب أصحاب هذا الرأي، فإنّ باسيل لا يجلس على مقعد الاطمئنان الكامل، بل لعلّ ما يزيد هواجسه أنّ «حزب الله» لم يتعامل مع طموحاته الرئاسية بالطريقة ذاتها التي سبق أن اتبعها مع الرئيس ميشال عون، وحتى الآن لم يتلقَ باسيل وعداً يتمناه من «حزب الله» يمهّد له طريق القصر. كل ذلك، يدفع باسيل إلى فرض نفسه بخطاب «استفزازي» يسعى إلى استنفار العصب المسيحي تحديداً، بما يعطيه قوة دفع، من شأنها أن تجعله رقماً صعباً في المعادلة السياسية.

أمّا في المقلب الآخر، فهناك من يعتبر أنّ لا خيار أمام ثنائي جنبلاط وجعجع سوى المواجهة. فالرجلان كانا بالفعل، وباعترافهما، في صدارة جبهة الخاسرين في التسوية الرئاسية، ورهانهما على حلف ثابت مع الرئيس سعد الحريري بدا وكأنه قد تلاشى بعد أزمة الاحتجاز في السعودية، وما صدر عنهما من مواقف استفزّت الحريري ولا يبدو انه سيغفر لها، برغم اعلانه طي تلك الصفحة. فضلاً عن أن ّالحريري، انتهج سياسة التموضع مع ميشال عون، ربطاً بالتفاهمات التي صيغت مع باسيل، وكذلك ربطاً بشعور أخذ يتعزّز لديه بأنّ إرثه السياسي صار مهدّداً بلاعبين جدد على الساحة السنّية. وهذا الخطر استشعره الحريري بالتأكيد يوم صدرت نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة في معقله في العاصمة، وهو ما يدفع باتجاه أن تكون رهاناته في إطار الاصطفاف مع عون، برغم الإحراجات التي تسببها له تصريحات جبران باسيل.

ما سبق، يضيف أصحاب هذا الرأي، يفسّر سبب «انتفاضة» جنبلاط على زيارة باسيل للجبل، علماً أنّ زيارة سابقة لم تؤدِّ إلى هذا الشكل من ردّ الفعل العنيف، وكذلك تحسّس سمير جعجع من أداء جبران ومواقفه تجاه «القوات اللبنانية»، وصولاً إلى خطابه الاخير في طرابلس، حين أعاد فتح صفحة مؤلمة جديدة في الحرب الأهلية متصلة باغتيال الرئيس رشيد كرامي.

لذلك يبدو جنبلاط وجعجع في مركب واحد في مواجهة مركب باسيل، وبناء عليه يأتي التصعيد الذي يبدو أن لا حدود له، فإمّا أن يُحدثا إعادة خلط للأوراق، بما يؤدي إلى جذب المزيد من الركاب، وفي مقدمهم الحريري، وإما المواجهة الشاملة.

هذه المواجهة، يقول أصحاب هذا الرأي، يشي بها التلويح الاشتراكي - القواتي الأخير باحتمال الاستقالة من الحكومة الحالية، في رسالة موجّهة إلى أكثر من طرف. فهي أولاً رسالة إلى عون بأنّ ثمة من يقدر على تخريب التسوية الحكومية التي اتت امتداداً للتسوية الرئاسية في حال لم «يضبط» الوزير - الصهر. وهي ثانياً رسالة إلى الحريري وفقاً لمنطق «العصا والجزرة»، أيّ التهديد بتخريب الحكومة من جهة، والدعوة إلى الاصطفاف السياسي من جهة أخرى!