ما حصل رسالة سياسية إلى واشنطن هدفها إبعاد الاتهامات عن مؤسسة الحشد الشعبي في العراق بكونها مرتبطة برئيس الحكومة وليست بإيران، والخطوة تشكل عمليات تطهير لبعض غير المنضبطين ستتم خلال هذا الشهر.
 

حين تتعرض الشعوب والأمم إلى احتلال وغزو خارجي فإنها تنتفض وتنتظم بجحافل وميليشيات مسلحة بواسطة جيوشها الوطنية أو بتنظيماتها الشعبية لتدحر العدوان وتطرده من أوطانها. الأمثلة القريبة لنا تتمثل في حرب شعب الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، لكنّ سياسييه صادروا مبادئ الثورة وأضاعوها بعد عقود قليلة بسبب غول السلطة، وشعب فلسطين الذي طرد من وطنه وتحوّل إلى أول عنوان عربي للجوء والهجرة.

والمثال الأقرب إلى العراقيين تصديهم لاحتلال الإنكليز عام 1920 وتصديهم للعدوان الإيراني المسلح بشيعتهم وسنتهم وكل قومياتهم لست سنوات ما بين 1982 إلى 1988 بعد رفض طهران وقبول العراق لقرار مجلس الأمن بإيقاف الحرب. ومقاومتهم المسلحة للاحتلال الأميركي عام 2003 التي غدر بها من قبل السياسيين جياع المال والجاه الذين قايضوا السلطة بكل قيم الأرض والسماء فتهادنوا وخدموا الاحتلال العسكري والسياسي، ووضعوا مسطرة طائفية مقيتة كافأت الشيعي المقاوم بمزايا المناصب والعطايا ولم تكتف بحرمان السني من حقوق المواطنة بل تمت مطاردته وتحويله بفعل مكر وخداع أمراء الطائفية السنة والشيعة إلى “إرهابي” رغم كل الحقائق التي تنفي هذه الفرية. وكان تصدي أهل الأنبار وصلاح الدين وديالى والموصل لعصابات داعش المثال المتجدد لأصالة العراقيين وتصديهم الشعبي البطولي إلى جانب القوات المسلحة وطردهم لتلك الفلول المغطاة بالإسلام المتطرف من أرض العراق في ديسمبر 2017 تاريخ انتهاء حرب تحرير الأرض.

كان من الطبيعي أن يعود الرجال الشجعان إلى عوائلهم بعد انتهاء المهمة الوطنية مكللين بالنصر، لكن بعض الأحزاب والقوى الشيعية التي كانت لديها ميليشيات مسلحة قبل حرب عام 2014، استثمرت الحالة الشعبية سياسيا لتُبقي على تنظيمات “الحشد الشعبي” التي شُرّع لها إطار قانوني في البرلمان كقوة رديفة للجيش العراقي الذي همّشت وظيفته كمدافع أول عن الوطن، محاطة بهالة من القدسية التي ارتبطت بواقعة الدفاع عن العراق. وكانت نتائج هذا الاستثمار السياسي الحصول على مواقع برلمانية وسياسية متقدمة في هيكل الحكم.

كان يمكن لهذه المكافأة أن تتحول إلى برامج لسياسات تخدم المواطن العراقي ضمن حالة التنوع الديمقراطي المفترض حتى في إطار الإسلام السياسي الذي انكشفت حقيقته بتخليه عن مصالح الناس. شعرت بعض الزعامات الشيعية التي لديها ميليشيات مسلحة واحتلت مواقع سياسية كبيرة بأن استحقاقات هذه المواقع تفرض عليها خطابا إعلاميا مهادنا في ظل سخونة المعركة السياسية الإيرانية الأميركية، واحتمال انفجار لهيبها في أي لحظة وانكشاف الحالة العراقية بعد أن فتحت إيران أبواب خيارها الاستراتيجي الوحيد بجعل العراق ساحة المنازلة الأولى ضد واشنطن والعواصم العربية عن طريق استخدام الأدوات الوكيلة للقيام بأعمال تخريبية داخل العراق كسلسلة عمليات صواريخ الكاتيوشا، أو تحويل الأراضي العراقية إلى منصات عدوان عسكري ضد السعودية، أو الاعتداء المباشر ضد السفارة البحرينية. هذه الرسائل التخريبية رغم خطورتها ساعدت على تحقيق التحام سياسي ولوجستي بين الولايات المتحدة والعرب، وتطوره إلى تحالف أوروبي عالمي رغم بطئ الحركة الأوروبية اللاهثة وراء مصالحها كالعادة وانتهازية الموقف الروسي.

كانت واشنطن واضحة مع القيادة السياسية العراقية، وكان ردها على العدوان الإيراني على المصالح الأميركية يعني بصورة مباشرة الرد العسكري على استفزازات بعض الفصائل الميليشياوية التابعة لطهران داخل العراق الذي سيتحول رغما عنه إلى حليف داعم لعدو واشنطن إيران. وتوضح ذلك مع التحذير الذي أطلقه مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون في مايو الماضي من “أن استخدام إيران للمجموعات الشيعية التابعة لها في العراق لمهاجمة المصالح الأميركية سيواجه بردّ قوي”.

هذا الظرف الصعب وضع رئيس الحكومة العراقية عادل عبدالمهدي أمام مسؤولية حرجة باعتباره الحاكم الأول المسؤول عن حماية العراقيين، ووجد بعد تكرار تلك العمليات التخريبية المكشوفة من قبل طهران أنه لم يعد قادرا على التغطية أو التبرير، وأن النظام الإيراني لا يبالي بما يمكن أن يقع فيه العراق من مشكلات تهدد أمنه الوطني وتؤدي إلى حرج جدّي للحكومة.

وهو يعلم بعدم قدرته على التحرش بمؤسسة “الحشد الشعبي” الممتلكة لـ150 ألف مقاتل إلى جانب قوتها السياسية المتمثلة بـائتلاف “فتح” بزعامة هادي العامري مسؤول منظمة بدر، وقيس الخزعلي زعيم عصائب أهل الحق، وهما اللذان جاءا به إلى رئاسة الوزارة إلى جانب ائتلاف “سائرون” بزعامة مقتدى الصدر، وعبدالمهدي متمسك بمنصبه وليس كما يشاع عن وضع استقالته في جيبه.

لهذا اشتغل بدهائه الناعم وعمق تجربته السياسية، وتوصل بعد حوارات معمقة مع طهران وزعامات الحشد إلى تخريج آلية تهدئة عبر عنها بالأمر الديواني في الأول من يوليو الحالي بتنظيم وضع الحشد الشعبي بصورة توحي بإعادة هيكليته وضبط انفلات مقراته وإنهاء تجاوزات بعض منفلتيه، وإخفاء أسماء تلك الفصائل المطاردة من الولايات المتحدة، وتأكيد ارتباطه بقائد القوات المسلحة وغيرها من التفصيلات التي صوّرت وكأنها ثورة على الحشد الشعبي وإدماجه بالقوات المسلحة.

هذه التفسيرات المضخمة بعيدة عن واقع هذا البيان الإجرائي. وخير من فسره أحد قادة الحشد الشعبي، أحمد المكصوصي، في مقابلة تلفزيونية قال فيها إن قرار رئيس الوزراء مطبق فعليا ولا جديد فيه، وأكد ذلك الناطق باسم الحشد كريم النوري معتبرا أن القرار سبق أن اتخذه رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي لكنه لم يطبقه. أما بيان حزب الله العراقي فقد طالب بشمول البيشمركة الكردية بإجراءات ولاية رئيس الوزراء.

وهذا مما يؤكد أن ما حصل هو رسالة سياسية إلى واشنطن من بغداد هدفها إبعاد الاتهامات عن مؤسسة الحشد الشعبي في العراق بكونها مرتبطة رسميا برئيس الحكومة وليست بإيران، وأن الخطوة تشكل عمليات تطهير لبعض غير المنضبطين ستتم خلال هذا الشهر، لكن هذا الإيحاء السياسي قد يكون له جانب مستقبلي خطير إذا حصلت مجددا هجمات صاروخية أو أعمال تخريبية من داخل العراق ضد المصالح الأميركية بالذات، أو ضد جيران العراق من دول الخليج العربي في ظل تعنت نظام طهران ودخوله لعبة العناد الانتحاري بعد الإعلان عن مباشرة عمليات تخصيب اليورانيوم غير المسموح به، إضافة إلى عدم وضوح مواقف الفصائل المعنية أكثر بالهجمات الأخيرة.

والسؤال المهم: هل إن عادل عبدالمهدي اتفق مع النظام الإيراني بالتوقف عن هذه العمليات؟ وأن الحرس الثوري الإيراني سيلتزم بذلك، وهل سيتم استبدال هذه الانتهاكات بنمط جديد من التخريب الإيراني يبعد الشكوك عن فصائل الحشد الشعبي أو القوى المسلحة غير الملتزمة بتعليمات الحكومة العراقية؟ الأيام القادمة ستجيب على هذه التساؤلات.