لندن تركب موجة الإسلام السياسي لاستعادة نفوذها الإمبراطوري.
 
تلقت بريطانيا، مساء الأربعاء، درسا جديدا في حدود ما تستطيع المناورة فيه دبلوماسيا بوجود الولايات المتحدة، وأن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا يزالان منطقة نفوذ أميركية لن تسمح إدارة الرئيس دونالد ترامب لأحد بالتدخل فيها.
 
وفشلت لندن في تمرير بيان بمجلس الأمن يدين استهداف مركز لإيواء المهاجرين بناحية تاجوراء شرق العاصمة الليبية طرابلس، ويتضمن دعوة لوقف إطلاق النار في ليبيا، وهو البيان الذي وصفه محللون ليبيون بأنه فخ.
 
وقالت المصادر إنّه خلال جلسة طارئة مغلقة عقدها المجلس حول هذا القصف واستغرقت ساعتين قدّمت بريطانيا مشروع بيان يدين الضربة الجوية، ويدعو مشروع البيان المتحاربين إلى “خفض التصعيد فورا والالتزام بوقف إطلاق النار” والعودة إلى طاولة الحوار، وهو ما عرقلته الولايات المتحدة.
 
وجاء مشروع البيان البريطاني مفخخا، فهو في الظاهر يأتي ردا على استهداف لاجئين وفي الباطن يحقق للندن ما عجزت عنه في السابق، وهو التوصل إلى وقف إطلاق النار وإنقاذ الميليشيات المتحالفة مع سلطات طرابلس، وإعطاء رسائل إيجابية لحلفائها ووضع لبنات لمواقع نفوذ بريطانية تتلاءم مع مرحلة بريطانيا ما بعد بريكست.
 
ويقول محللون وأوساط دبلوماسية إن بريطانيا بدأت تعدّ استراتيجية جديدة لما بعد بريكست تقوم بالأساس على القطع مع موقع الظل الذي كانت تتقن لعبه خلف الولايات المتحدة لتبدو كالتلميذ النجيب الذي يحرص على إظهار تميزه في تنفيذ ما يطلب منه.
 
ويشير هؤلاء إلى أن بريطانيا بدأت بفك الارتباط مع الولايات المتحدة، ولو بشكل تدريجي وبعيدا عن الأضواء، من خلال تسلل مدروس إلى مناطق غير مستقرة مثل اليمن وليبيا، واستثمار العلاقة التاريخية بين لندن وحركات الإسلام السياسي بوجهيه الإخواني والإيراني.

وتحاول بريطانيا العودة إلى المنطقة عن طريق التقارب مع سلطات الأمر الواقع، وفي دول ذات مواقع استراتيجية، كما هو الحال في اليمن وليبيا. وإذا كان التحرك من وراء الستار وتصعيد هذا السياسي أو ذاك عبر انقلاب أو ثورة مفتعلة أمرا ممكنا في القرن العشرين، فإنه في القرن الحادي والعشرين يصير الأمر صعبا بسبب تطور التقنيات العسكرية، وخاصة تطور الإعلام وبروز وسائل التواصل الاجتماعي.

ويقول متخصصون في السياسة الخارجية البريطانية إنه منذ بداية الربيع العربي وصعود الإسلام السياسي، بدأ سعي لندن إلى تطبيق سياسة أكثر استقلالية في المنطقة، وأن هذا الصعود شجع البريطانيين على الطموح في استعادة بريطانيا لمكانتها كدولة عظمى بعد أن ظلت تتخفى لعقود وراء أنشطة الولايات المتحدة.

ولم يكن الدور البريطاني في ليبيا يحتاج إلى الكثير من الوقت ليتم تسليط الأضواء عليه، حيث بات الليبيون والأميركيون على علم باستراتيجية بريطانية تحاول تثبيت سيطرة الميليشيات المسلحة على الحكم، ولو على جزء من ليبيا، وعينها على منتجات النفط في بلد مهم من حيث وزنه في أوبك.

وحاولت لندن إنقاذ العملية السياسية الفضفاضة التي تقودها الأمم المتحدة، بما يسمح لأي جهة دولية بأن تكسب موقع نفوذ لها، ووظفت علاقاتها وسجلها في احتضان قيادات إسلامية من تونس وليبيا كانت فارّة من أحكام قضائية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.

لكن الأهم في هذه الاستراتيجية هو محاولة بريطانيا التحرك من داخل مشاريع الأمم المتحدة وخططها السياسية والأمنية والإنسانية، ففي ليبيا وظفت هشاشة اتفاق الصخيرات في مسعاها لتثبيت حكم الإسلاميين تحت ظل حكومة معترف بها دوليا، وهو توصيف فضفاض خاصة أن هذه الحكومة باتت تتحرك في مربع صغير وبلا عمق عربي وأفريقي ودولي.

وفي اليمن تسلّلت بريطانيا من بوابة الأمم المتحدة، أيضا، ونجحت في فرض مواطنها مارتن غريفيث مبعوثا دوليا خاصا إلى اليمن. ولم تكتف بذلك، بل صارت تسيّر الأمور في مجلس الأمن حسب أجندتها وحساباتها، وتصدر القرارات التي تؤبد السيطرة الحوثية على مواقع استراتيجية مثل مدينة الحديدة ومينائها.

ويعمل المبعوث الأممي بشكل لافت على عدم إغضاب الحوثيين بالرغم من التجاوزات الكثيرة التي عمدوا إليها لتعطيل اتفاق الحديدة ورفضهم الانسحاب.

ويقول خبراء عسكريون واستراتيجيون إن بريطانيا تريد الاحتفاظ بحالة الانقسام بشأن اليمن، وخاصة ما تعلق بالحديدة، وتنحاز للطرف الضعيف الذي يمكنها أن تتحكم فيه كما تريد، وليس خافيا أنها تريد الحوثيين كواجهة للتغطية على رغبتها في السيطرة على حركة الملاحة في البحر ومراقبة السفن، ومن ثمة العودة إلى الدور القديم الذي كانت تلعبه الامبراطورية البريطانية.

لكن الولايات المتحدة أظهرت في أكثر من مرة أنها واعية بالطموح الامبراطوري الجديد لبريطانيا المذبذبة بين الاحتماء بالاتحاد الأوروبي أو الانغماس في مغامرة خروج غير مأمون، خاصة الإدارة الأميركية الحالية التي يسيطر عليها صقور مثل جون بولتون ومايك بومبيو والتي تتسم سياساتها بالتشدد وعدم السماح لأي جهة بمزاحمة النفوذ الأميركي أو تحدي مصالح واشنطن أو حلفائها، كما الأمر مع إيران وبشكل واضح.

ولأكثر من مرة توقف الولايات المتحدة محاولة بريطانية لاستصدار قرار في مجلس الأمن بشأن ليبيا، وفي كل مرة كان الهدف إدانة قائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر المدعوم عربيا والذي يلقى أداؤه تفهما دوليا واسعا بسبب حربه على الإرهاب في شرق ليبيا وغربها.