لا مفاجأة في الصور التي انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تظهر لافتات غريبة في شوارع مدن إيرانية، تربط بين الاتفاق النووي الإيراني الموقع العام 2015 وبين تأخر ظهور المهدي المنتظر، بحسب المعتقدات الشيعية السائدة في إيران. ولا مفاجأة أيضاً في أن الحكومة الإيرانية سارعت إلى التبرؤ منها عبر إزالتها من الشوارع على وجه السرعة.

 

وتحمل اللافتة التي عُلقت بعد يوم واحد فقط من فرض الولايات المتحدة عقوبات على المرشد الأعلى علي خامنئي، قبل أيام، صورة خامنئي وهو ينظر إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وكتب فيها: "بقدر ما أن الإتفاق النووي الإيراني أجّل ظهور الإمام المهدي، فإن حكمة خامنئي المدهشة والحماسية أمام الرئيس الأميركي ترامب، تمثل العد التنازلي لظهور الإمام المهدي المنتظر".

 

غياب المفاجأة، وحتى الفكاهة الآتية من استمرار ملايين الناس حول العالم، بربط تفاصيل الحياة اليومية بعالم الغيبيات في القرن الحادي والعشرين، يرجع إلى التقديرات المبكرة بشيوع مثل هذا النمط المحافظ من التفكير تدريجياً، وتحديداً في المعسكر المعارض للاتفاق النووي أو المفاوضات مع الغرب، في الداخل الإيراني. ولا يقتصر ذلك على التصعيد السياسي والعسكري، من طرف الفصائل الأكثر تشدداً ضمن النظام الإيراني، الذي يجيد لعبة التوازن الدقيقة والتي يحاول فيها اتباع سياسة "المقاومة القصوى"، كردٍّ على حملة الضغط الأقصى التي تمارسها الإدارة الأميركية ضد طهران منذ شهر أيار/مايو الماضي، بل تتعداها إلى المجالات، الثقافية والفكرية والدينية والدعائية.

 

وإن كانت سياسة "المقاومة القصوى" تبحث عن التوازن في مجال العلاقات الخارجية، إلا أنها تنسحب على السياسات المحلية أيضاً، لأن أحد أهداف حملة "الضغط الأقصى" حسبما أشار الصقور في الإدارة الأميركية مرات عديدة، مثل مستشار الأمن القومي جون بولتون، ووزير الخارجية مايك بومبيو، هو إحداث تغيير داخلي في إيران يقود إلى تغيير النظام السياسي نحو الديموقراطية. وبالتالي تصبح التجاذبات السياسية الداخلية مهمة هنا، من أجل خلق توازن لا يقود إلى انفجار شعبي، مهما كان ذلك مستبعداً، رغم أن التقارير العالمية واستطلاعات الرأي ذات الصلة، تشير إلى تململ واسع في إيران من الحكم الديني للبلاد.

 

ويخشى خبراء غربيون، أن تؤدي الحملة الأميركية إلى العكس تماماً، أي أن تدفع المتشددين في البلاد نحو مزيد من النفوذ في وجه المعسكر الإصلاحي الراغب نظرياً في الإبقاء على الاتفاق النووي الإيراني وحتى التفاوض مجدداً مع الغرب، وهو ما تدل عليه التصريحات الرسمية لشخصيات إصلاحية مثل الرئيس حسن روحاني، ووزير الخارجية محمد جواد ظريف. علماً أن سيطرة المتشددين على كامل السلطة في إيران، قد تدفع البلاد للانزلاق بطريقة أو بأخرى في نزاع لا يرغب فيه أحد في الشرق الأوسط.

 

وبحسب المعلومات المتداولة، فإن شعبة الباسيج، التابعة للحرس الثوري الإيراني، علقت اللافتة في مدينة زنجان الإيرانية، أمام أحد المساجد، وهي واحدة من الفئات الأكثر تشدداً في إيران، وتشرف على قطاعات واسعة من الدعاية الإيرانية، خصوصاً في أوساط الشباب والطلاب. ولعل اللافتة تعبّر عن الشقاق الحالي بين الحكومة والحرس الثوري في إيران، لأنها تصور الاتفاق النووي الذي وقعته حكومة روحاني، عائقاً أمام الثورة الإيرانية نفسها، بوصفها حركة دينية وروحية وليست حركة سياسية فقط.

 

وقال علي محمدي، رئيس شعبة قوات التعبئة التابعة للحرس الثوري، والتي نشرت لافتة ظهور المهدي: "نحن نتحدث بأدلة، وجميع هذه الأدلة يشير إلى أن الثورة الإيرانية كانت على مقربة من الوصول إلى هدفها وهو ظهور الإمام المهدي، لكن إبرام صفقة الإتفاق النووي الإيراني أجّل ظهوره"، على حد تعبيره.

 

وسارعت الحكومة الإيرانية لإزالة اللوحات، ونقلت صحيفة "إيران" الإصلاحية التابعة لحكومة روحاني، عن محمدي، في وقت لاحق أن "ما قام بنشره وتثبت في العديد من المساجد هو رأيه واعتقاده الشخصي بذلك، وليس رأي المرشد علي خامنئي"، وهي مجرد طريقة للالتفاف على الانطباع بوجود خلافات بين فصائل النظام الإيراني، أمام الولايات المتحدة وأمام الشعب الإيراني على حد سواء.

 

وإن كان هذا التصرف الفردي يأتي من شخصية هامشية في الحرس الثوري الإيراني، إلا أن الاندفاع نحو هذا التصرف يحيل إلى حقيقة أن الضخ الدعائي الذي تمارسه الفصائل المحافظة يؤدي إلى مزيد من الراديكالية في القاعدة الشعبية لتلك الفصائل، ومن بينها الباسيج، وهو ما أشارت إليه دراسات ذات صلة مؤخراً، استند عليها خبراء في تحذيراتهم للإدارة الأميركية من أن الضغط على البلاد قد يدفع هذه الأصوات إلى البروز، وتحديداً الفئات الأصغر عمراً الذين لا تتجاوز أعمارهم 20 عاماً، والذين يعتقد بشكل خاطئ أنهم راغبون في التغيير الاجتماعي بعيداً من الحكم الثيوقراطي في البلاد.

 

وبحسب دراسة نشرتها مجلة "فورين أفيرز" قبل أشهر، توجد فجوة تزداد اتساعاً، بين جيلين من صناع البروباغندا الإيرانية وأعضاء القاعدة الشعبية للنظام الإيراني. فضمن العالم السري لوحدات الإنتاج الإعلامي للحرس الثوري والباسيج، توجد نقاشات حادة ومفاجئة حول مستقبل البلاد بين شباب الباسيج الذين لا تتجاوز أعمارهم 20 عاماً، مقابل رجال في منتصف الخمسينيات، ساهموا في ثورة 1979، حيث يرى الطرف الأول البلاد بصورة أكثر أيديولوجية من الطرف الثاني الذي بات يميل للتغيير وتعديل النظام وتخفيف القيود الاجتماعية والثقافية وفتح المجال السياسي لمزيد من التنافس. وينعكس ذلك بشكل واضح في الأفلام والمنتجات الإعلامية التي تقدم البروباغندا المحلية للإيرانيين، والتي يمكن تلمّسها في الربط الحالي بين المهدي المنتظر والاتفاق النووي.

 

ولا تعني التحذيرات الموجهة للإدارة الأميركية في هذا الصدد من جهة، ولا استياء قسم كبير من الإيرانيين من الخراب الذي جلب إلى بلادهم طوال أربعين سنة من الحكم الديني من جهة ثانية، أنه يجب التراجع عن حملة الضغط الأقصى، بشكلها الحالي، أو التمادي فيها نحو الصراع المباشر. لأن الحملة تثبت فعاليتها على مستويات عديدة، أولاً، لأن الإيرانيين يحافظون على إحساس عال بالقومية، وثانياً، هذا ما يجعلهم مؤهلين لدعم تصرفات عدائية رسمية، إن تم الحشد لها من منطلق قومي في الدعاية الإيرانية مثلاً، بعكس الدعاية الدينية البارزة في لوحة المهدي المنتظر.

 

في ضوء ذلك، تصبح التجاذبات في الخطاب الإيراني المحلي، هي المؤشر للسياسة الخارجية، لأن اللحظة التي سيتحول فيها خطاب المعسكر الإصلاحي الموجه للشعب الإيراني، نحو التعبئة القومية، بدلاً من التعبئة الدينية التي يمارسها المعسكر المتشدد اليوم بدليل اللوحة الدعائية، ستشكل إعلاناً بأن إيران وصلت إلى نقطة اللاعودة، بعكس حالتها اليوم، مع تمسكها بالخطاب الدبلوماسي رغم التصعيد في الخليج مؤخراً، والذي يبقى محدوداً كأداة للضغط المضاد من أجل تحصيل نفوذ في أي مفاوضات مقبلة يأمل الإصلاحيون تحديداً فيها.

 

وهذه هي الديناميكية التي يجب أن تهم إدارة ترامب الآن، لأنه من الضروري الحفاظ على الضغط على إيران من دون تحويل الضغط لصالح أطراف ضمن النظام قد تريد الانجرار نحو الصراع. على أمل أن تكون إدارة ترامب واعية لفكرة السماح لحملة الضغط الأقصى بالعمل من دون إعطاء السلطات في طهران دبلوماسية مضادة أو إمكانية اللجوء إلى القوة العسكرية التي من شأنها أن تأتي بنتائج عكسية في المدى الطويل.

 

وليد بركسية