كان الحماس الزائد وعدم المهارة في التفاوض والتكتيك عند قوى الحرية والتغيير في السودان من الأسباب التي لم تسهل بلورة تسويات تمنع الوقوع في فخ ما يسمى الدولة العميقة وخططها لتعطيل عجلة التغيير.
 

يسود الحذر الوضع السوداني منذ فض الاعتصام وتداعياته، ويتأكد للشباب عصب الحراك الثوري وجود المزيد من الصعاب على دروب التغيير في السودان، خاصة أن اللازمة في التاريخ السوداني منذ الاستقلال عام 1956 كانت انتهاء التجربة المدنية بسيطرة عسكرية، ولذا لن يتكرر بسهولة المشير عبدالرحمن سوار الذهب. هنا يكمن التحدي أمام تيار مدني ديمقراطي متعدد الأحزاب طالما تميزت الحياة السياسية في بلاد النيلين بوجوده، لكنه اصطدم غالبا بالانقلابات العسكرية أو بنظام البشير الذي سيطر عليه الإسلام السياسي مع خلطة من الزبائنية وعوامل التفتيت.

ومهما كانت المصاعب لا بد من إيجاد وصفة سحرية للمعادلة السودانية الشائكة عبر القبول بتقاسم السلطة في مرحلة انتقالية محددة زمنيا، مع عدم رفع سقف المطالب الشعبية مقابل ضمان عدم عودة السيطرة العسكرية. ولا يبدو الأفق مغلقا أمام الوصول إلى هذا الترتيب بالرغم من تعقيدات ونكسات محتملة.

وقد شملت الموجة الثانية من الاحتجاجات في العالم العربي، التي انطلقت في ديسمبر 2018، السودان والجزائر، وساد التفاؤل في أبريل 2019 مع إزاحة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة والإطاحة بالرئيس عمر البشير. وكان هناك رهان على استخلاص دروس الدفعة الأولى من الاحتجاجات وذلك بتجنب العنف وإيجاد صيغ ملائمة للمرحلة الانتقالية. لكن المأزق الذي ارتسم في البلدين خلال شهر يونيو يمكن أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ولم تتم الفرحة حتى الآن للشباب في البلدين مع فض الاعتصام في الخرطوم ومع سعي لتجميد الوضع الجزائري وعدم الاستجابة للمطالب السياسية والتركيز على مسلسل قانوني في حبس جزء من مافيا الفساد من دون شفافية. وكان موضع الاهتمام دوما موقف المؤسسة العسكرية التي طالما لعبت في البلدين دورا مركزيا أو تأسيسيا، وبالطبع كانت تتوجب متابعة مواقف القوى الإقليمية والخارجية نظرا لتداخل في الملفات والمصالح و حيوية المواقع الجيوسياسية لهذين البلدين، إنْ في وادي حوض النيل والقرن الأفريقي والبحر الأحمر، أو في شمال أفريقيا وجنوب المتوسط.

بالرغم من الفوارق، يكمن عنصر التعقيد الأساسي في عدم رغبة المؤسسة العسكرية أو البعض منها أو من المحسوبين عليها في مغادرة المسرح السياسي والدائرة الأولى للحكم في البلدين. وفي السودان تفيد مصادر مستقلة أن المجلس العسكري الانتقالي يعاني عمليا من مسعى الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس المجلس العسكري ليكون الرجل القوي الجديد، وهو الذي كان القائد السابق لميليشيات “الجنجويد” في دارفور والتي تحولت إلى “قوات الدعم السريع” التي أصبحت القوة التنفيذية الفاعلة في الخرطوم بالذات. وربما كان الحماس الزائد وعدم المهارة في التفاوض والتكتيك عند قوى الحرية والتغيير في السودان من الأسباب التي لم تسهل أيضا بلورة تسويات تمنع الوقوع في فخ ما يسمى “الدولة العميقة” وخططها لتعطيل عجلة التغيير. لكن وقائع الأيام الماضية تشير إلى أن الوضع السوداني الذي يحظى بمتابعة أفريقية، مدعومة أوروبيا وأميركيا، يمكن أن يصل إلى خواتيم معقولة.

وحسب مصادر دبلوماسية في الخرطوم، تهدف الوثيقة المشتركة التي ستقدم من الوسيط الإثيوبي السفير محمود درير، وممثل الاتحاد الأفريقي الموريتاني الحسن لباد، إلى تقريب وجهات النظر بين المجلس العسكري وقوى المعارضة، بتشكيل مجلس سيادي مشترك، وكذلك مؤسسة السلطة الإجرائية أي مجلس الوزراء على أن يكون رئيسه من “قوى الحرية والتغيير”، على أن يتم إرجاء تعيين المجلس التشريعي المختلف حوله، إلى وقت لاحق.

ويبدو أن الخلاف يتركز على توزيع النسب داخل المجلس التشريعي، إذ خلافا للاتفاق الأولي القاضي بمنح 67 بالمئة لقوى الحراك، يسعى المجلس العسكري إلى أن تكون حصة قوى الحرية والتغيير مقتصرة على نسبة 50 بالمئة، على أن تشرف المعارضة على تقسيم ما تبقى أي نسبة 17 بالمئة منها على شخصيات مدنية من قوى شرق السودان والحركات المسلحة الموقعة على اتفاقيات سلام سابقة في دارفور. وتؤول نسبة 33 بالمئة إلى قوى وتشكيلات أخرى من خارج قوى الحرية والتغيير، وتضم أحزابا سياسية ورجال أعمال وإدارات أهلية وممثلي المجتمع المدني، يتم اختيارهم بالتشاور بين المجلس العسكري وقوى الثورة.

لكن هذا الطرح يقابله رفض من قوى “الحرية والتغيير” التي تخشى أن يتم من خلال هذه الصيغة إفساح المجال للتسلل إلى السلطة التشريعية من قبل محسوبين على النظام السابق، مع ما ينطوي ذلك من مخاطر عرقلة عملية الانتقال. وإذا كان البعض من المعارضين يتهمون المجلس العسكري برمته بالسعي لإفراغ العملية العسكرية من محتواها، يقول مصدر موثوق من الحراك السوداني إن “دروب التفاهم مفتوحة مع المجلس العسكري بالرغم من صعوبات الإخراج، لأن هناك شعور بالمسؤولية، ولأنه على عكس ما هو شائع يبدي كبار الجنرالات انزعاجا من دور حميدتي ويحاولون تحجيمه”.

وتتقاطع هذه المعلومة مع تقييم سفير سوداني سابق يعتقد أن “الجنرال دقلو يضخم دور القوات السودانية في حرب اليمن لغاية شخصية لأن دول التحالف العربي حريصة على التفاهم بين المؤسسة العسكرية والحراك الشعبي وتضغط بهذا الاتجاه”. ويشكل ذلك عاملا مطمئنا حول مستوى الوعي الذي تضطلع به الأطراف السودانية المعنية ويمنعها من الوقوع في المحظور وشبح الفوضى التدميرية.

وفي نفس الاتجاه، يضغط المبعوث الأميركي دونالد بوث الذي طالب قوى الحرية والتغيير بوقف التصعيد مع المجلس العسكري والاتفاق على نقل السلطة سريعا، خاصة أن الاتحاد الأفريقي كان قد حدد موعد 30 يونيو لتجميد عضوية السودان في حال فشل الفرقاء السودانيين في التوصل إلى اتفاق ينهي الأزمة الحالية. ينسجم ذلك مع مواقف غربية وإقليمية أخرى لمنع اتخاذ خطوات انفرادية من أي طرف مثل تشكيل حكومة انتقالية حتى لا تسقط عملية التفاوض. وعلى عكس الصين وروسيا التي لا تمانعان من استنساخ تجارب جعفر النميري وعمر البشير، تركز واشنطن والعواصم الأوروبية المهتمة والاتحاد الأفريقي على أهمية أن يتم الوفاء بوعد تسليم السلطة إلى المدنيين في أسرع وقت.

يسلم أكثر من مصدر أنه لن يكون الحكم في السودان أو النظام ديمقراطيا على النمط التقليدي أو المتعارف إذ أن الأهم انتخابات في الوقت المناسب من قبل “حكومة مدنية يحميها الجيش الذي يحمي الدولة”.

عبر تاريخه كان السودان مرارا على فوهة بركان خاصة عند الحرب مع الجنوب والصراع في دارفور، وللتمكن من الحفاظ على وحدته بحدوده الحالية والتفرغ للتنمية وبناء دولة الحق والقانون لا بد من إرادة وطنية وواقعية لصنع التغيير المنشود.